أحبولة التراث في الفكر العربي المعاصر قراءة تحليلية

تسعى هذه المقاربة إلى بلورة رؤية ما عن الاتجاهات الرئيسية في الخطاب الفكري العربي، في محاولة لاكتناه دلالاتها، والكشف عما يمكن أن تؤديه من دور في استمرارية الأزمة التي يعيشها هذا الفكر، منذ ما يقرب من قرنين، أو الإسهام في تحقيق انفراج جدي، تلمسًا لأفق رؤية مستقبلية.
فمنذ انسحاب الفكر العربي عن مسرح الفعل التاريخي الفاعل، والكفّ عن الإسهام في إعادة تشكيل المعطيات الحضارية لعالم اليوم والاكتفاء بالموقف الاستهلاكي المنفعل، ورجال الفكر العرب، يسعون جاهدين للتعبير عن إحساسهم بالأزمة التي تحولت إلى واقع إشكالي، في محاولة لإيجاد إجابات لتلك الأسئلة التي شغلت بال من سبقهم من رجال النهضة؛ بدءًا بالأفغاني، مرورًا بالطهطاوي ومحمد عبده، وصولًا إلى مساعي طه حسين وزكي نجيب محمود وطيب تيزيني وحسين مروة ومحمود أمين العالم ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وعلي حرب وهشام جعيط ومحمد أركون ومحمد جابر الأنصاري وكمال عبد اللطيف، وسواهم من الكتّاب والمفكرين العرب، الذين يختلفون رؤى واتجاهات وفلسفات.
وقد لا نكون بحاجة إلى كبير جرأة للقول بأن مرور ما يقرب من قرنين على بدء مشروع المراجعة الفكرية للموقف من التراث والآخر، لم يكشف عن خروج هذا الخطاب من أفق الإشكالية التي يحياها، وإن قطع شوطا على طريق تحديث أدواته ومناهجه ورؤاه. وقد نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إننا نعدّ تراكم هذه الأسئلة المطروحة جزءًا من أزمة هذا الخطاب وتجليًا من تجلياتها.
وإذا شئنا تحديد طبيعة هذه الإشكالية، لقلنا: إنها تتجلى أبرز ما تتجلى في توزع هذا الخطاب بين مرجعيتي التراث والتحديث( الأنا والآخر)، أو ما كان يعبر عنه بالأمس القريب، بالأصالة والمعاصرة، من دون أن نصيب تقدمًا في إنضاج رؤية علمية أو إنتاج وعي ابستيمولوجي بهذه الثنائية التي لا يزال فكرنا المرهق ينوس بينهما.
من ناحيتنا نرى أن إشكالية الخطاب العربي أمر طبيعي، يفسرها ما انتهى إليه فكرنا من دور هامشي، وانسحاب اكتفى بآلية الاستهلاك والتلقي السلبي، مبتعدا عن روح الجدل والتفاعل والحوار. ولا ريب عندنا أن الفكر العربي لم يكن يعاني من الإحساس بوطأة هذه الثنائية، في زمن النهوض الحضاري، وامتلاكه عناصر قوته وتقدمه. ففي الوقت الذي نجد فيه اليوم أصواتًا كثيرة، وتيارات فكرية، تدعو إلى التمسك بالتراث، حاصرة به قيم المعاصرة ودلالاتها وتجلياتها، رافضة التأثر بالآخر والأخذ منه أو الاقتباس عنه، نجد فيلسوفًا عربيًّا مسلمًا كالكندي، يعلنها صريحة، بأنه ينبغي ألا نستحي من الحق، وأن علينا اقتناءه من أين أتى” وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق ولا تصغير قائله ولا الآتي به، فلا أحد بخس بالحق، بل كل يشرفه الحق.””1″
إن الذي دعا الكندي إلى صياغة معادلة الحق، وسعي العقل إليها، دونما إقامة لاعتبارات زائفة، لا صلة لها بجوهر السعي الإنساني الخلاق، إنما يرجع في تقديرنا إلى حالة القوة التي كان يتمتع بها الفكر العربي والحضارة التي أظلته، وانتفاء مسوغات الخوف، في حين ينطلق الموقف الرافض للآخر من سيكولوجيا الخوف التي تغذيها لحظة الضعف والانسحاب الحضاري أو ما أسماه محمد عابد الجابري بالميكانيزم الدفاعي للمقهور. “2”
لم يكن الكندي وحده ممثلًا لهذا الموقف الفكري الرحب، في المشهد الثقافي العربي، فقد شجعت المرحلة التاريخية الخصبة تلك، تيارات مختلفة؛ تتفاوت حدة وهدوءًا، تحررًا ومحافظة على الانتظام في سياق فكري واحد. فهذا الشيخ الغزالي يجلي الأمر الذي رأيناه لدى الكندي، كاشفًا عن دلالات ما ينطوي عليه هذان الموقفان المتباينان:” لو رفضنا قبول الحق لأنه جاء على لسان من لا نثق به، لكان معنى ذلك أننا نهجر كثيرًا من الحق”. “3”
من هنا فنحن لا نظن أن بإمكان خطابنا الفكري المعاصر أن يتجاوز هذه الإشكالية في المدى القريب، ما دام العقل العربي مكتفيًا بدوره الاستهلاكي(المنفعل)، بعيدًا عن المشاركة في إنتاج منظومة العلم والفكر والفلسفة.
