في كتاب الفلسفة في الجسد Philosophy In The Flesh أو بالأحرى في (الفلسفة في اللحم)، يحوِّل جورج ليكوف ومارك جونسون ترسانة مفاهيم وإجراءات ودراسات اللغويات المعرفية والعلم المعرفي إلى جهاز نظري فعَّال وناجز لقراءة تراث الفلسفة الغربية، على نحو يتيح لنا أن نصبح على ألفة بأدبيات اللغويات المعرفية والعلم المعرفي بقدر ما يتيح لنا أن نعيد قراءة التراث الفلسفي الغربي من منطلقات طازجة وجديدة تمامًا، هذا في الوقت الذي يبرهنان فيه برهنة دامغة على معرفية الجسد وجسدية المعرفة، ودور اللاوعي المعرفي في التفكير، واستعارية المفاهيم. وهما ينطلقان في مشروعهما هذا من ثلاثة مبادئ برهنت عليها الأدلة المتآزرة للعلم المعرفي عبر العديد من الدراسات الإمبريقية في العديد من المجالات، وهي أن:

•       العقل مُجَسْدَن بشكل متأصل

•       التفكير غير واعٍ في معظمه

•       المفاهيم المجرَّدة استعارية على نطاق واسع

إن ثبوت هذه النتائج الثلاث الأساسية للعلم المعرفي، وبعد أن انقضى ما يزيد على ألفيتين من التأمل الفلسفي القبلي، لا يتيح للفلسفة، وفق ما يرى المؤلفان، أن تعود إلى ما كانت عليه من قبل مرة أخرى. إذ حين تؤخذ هذه النتائج معًا ويتم تناولها بالتفصيل كنتائج لعلم العقل تبدو غير متوافقة مع المكونات المركزية للفلسفة الغربية. وبهذا المعنى فإن هذا الكتاب يضع العلم في مواجهة الفلسفة، أو بعبارة أخرى يتحدى الفلسفة وطرائق التفكير الفلسفية في التراث الغربي، على نحو ما يصرِّح في عنوانه الفرعي (العقل المُجَسْدَن وتحديه للفكر الغربي)، انطلاقًا من نتائج ومعطيات العلم المعرفي للجيل الثاني الذي ليس سوى علم وليد يرتد إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن هذا التحدي لا يعني التنكر للتراث الفلسفي، وفق ما يعلن الكاتبان. ذلك أن التصورات الفلسفية، وفق عباراتهما، أثارت أخيلتنا وعلَّمتنا الكثير، لكن ما أن ندرك أهمية اللاوعي المعرفي وتجسدن العقل واستعارية التفكير حتى لا يعود بإمكاننا قط أن نعود إلى تفلسف قبلي حول العقل واللغة أو إلى الأفكار الفلسفية عما هو الإنسان. إن اقتران كل من اللاوعي المعرفي وتجسدن العقل والتفكير الاستعاري لا يتطلب فحسب طريقة جديدة لفهم العقل وطبيعة الإنسان بل يتطلب أيضًا فهمًا جديدًا لنشاط من أكثر الأنشطة الإنسانية شيوعًا وطبيعية، ألا وهو طرح الأسئلة الفلسفية، لأن الحياة حياة إنسانية تعد في حد ذاتها جهدًا فلسفيًا. وحينها، ووفق منظورهما، فإن ما ينبثق لن يكون سوى فلسفة ملاحمة للعظم. ذلك أن منظورًا فلسفيًا مؤسَّسًا على فهمنا الإمبريقي لتجسدن العقل هو فلسفة في اللحم، فلسفة تعتد بما هو أكثر رسوخًا فينا وبما يمكن أن نكون.

إنني لا أعتزم في هذه المقدمة أن أوجز أو أعرض أهم أو أبرز ما يحتويه هذا الكتاب من مفاهيم أو قضايا أو إجراءات؛ ذلك أن الكتاب بأكمله بين يدي القارئ يستطيع أن يتحدث عن نفسه أفضل مما يتحدث عنه سواه، هذا فضلاً عن أن التلخيص يمحو الشخصية، تمامًا مثلما يمحو المفهوم الاستعارة. وإنما سأحاول بدلاً من ذلك أن أكون أكثر وفاءً للقارئ ولما  يتناص معه نص الفلسفة في الجسد من خلال استكمال بعض ما أرى أن هذا الكتاب قد أغفله، هو وسواه من كتب اللغويات المعرفية والعلم المعرفي في كشوفهما تلك للمبادئ التي أشرنا إليها. بعبارة أخري، إنني سأحاول أن أفتح قناة أو أعقد زواجًا بين جسد هذا النص وجسد نصين فلسفيين آخرين أتصور أنهما يعانقان هذا النص وسواه من نصوص الأدبيات المعرفية بامتياز، إلا أنني، ولأسباب غير معلومة وربما غير مفهومة، لم أجد أي إشارة إليهما في تلك الأدبيات، وبالطبع يُستبعد أن يكون هذا التجاهل والإغفال وليد جهل أو نسيان. هذا في الوقت الذي نجد فيه إشادة واضحة ووافية بجهد فيلسوفين آخرين لا ينتميان بالمعنى المباشر إلى تراث العلم المعرفي.        

إذ نجد ليكوف وجونسون في مفتتح ‘‘الفلسفة في الجسد’’ أو بالأحرى ‘‘الفلسفة في اللحم’’ يعلنان عن دينهما لكل من ميرلوبونتى وجون ديوي، حيث يقولان ‘‘إننا نريد أن نشيد بفيلسوفين عظيمين للعقل المُجَسْدَن. إذ إن أي كتاب يتضمن كلمتي “الفلسفة” و”اللحم” “flesh” في عنوانه لا بد له من أن يعبِّر عن دين جلي لموريس ميرلوبونتي. إذ إنه استخدم كلمة “اللحم” ليعبِّر عن خبرتنا المُجَسْدَنة الأوليَّة وسعى إلى أن يركِّز انتباه الفلسفة على ما دعاه “لحم العالم”  “the flesh of the world”، العالم كما نشعره من خلال الحياة فيه. وبشكل لا يقل عن ميرلوبونتي رأي جون ديوي أن خبرتنا الجسدية هي الأساس الأولي لكل شيء يمكن أن نعنيه ونفكِّر فيه ونعرفه ونتواصل معه. لقد فهم الثراء الكامل والتعقيد والأهمية الفلسفية للخبرة الجسدية، إذ يُعد ديوي وميرلوبونتي بالنسبة لزمنهما نموذجين لمن نشير إليهم بوصفهم “فلاسفة مسئولين إمبريقيًا”، لأنهما قد عوَّلا على أفضل الصور الإمبريقية المتاحة من السيكولوجيا والفسيولوجيا وعلم الأعصاب ليشكِّلا تفكيرهما الفلسفي.’’