
القسم الأول – مداخل نظرية
توطئة –في الوعي الجمالي العربي:
نرى ان من المفيد، ونحن نحاول معالجة موضوع الأدب الرقمي التفاعلي، أن نحاول أولا استكناه مكانة هذا النتاج الإنساني الجديد في السياق التاريخي لتطور الوعي الجمالي العربي. فهذه المحاولة ستمكننا من صياغة فهم عملي لهذا الأدب، ورؤية معقولة لمستقبله.
يمتاز الأدب العربي بخصلة قد لا يمتاز بها أي أدب آخر في العالم، تلك هي تواصله وعدم انقطاعه منذ أكثر من ألف وخمسمائة عام، تواصلا ليس كالتواصل الطبيعي الذي تجري عليه سنين التاريخ، فإن أي قارئ معاصر يمكن أن يقرأ قصيدة أو خطبة قيلت قبل أكثر من ألف سنة ويفهمها ويتعاطى معها كما لو أنها قيلت اليوم. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو أمرا يدعو للفخر، فإنه من ناحية أخرى إشكال فكري معقد، ذلك لان اللغة كائن حي يتطور وينمو بما يناسب العصر الذي يحيا فيه ملبيا الحاجة الإنسانية لأشكال لغوية جديدة، لكن ما حدث في فجر التاريخ العربي الإسلامي من ربط للأعمال الأدبية بالدين أدى إلى تجميد الشكل اللغوي التقليدي (المثالي- حسب ما كان يرى علماء القرن الأول الهجري)، وإكسائه حلة من القداسة ومنع أية محاولة للتجديد والتطوير. لقد عرضنا بالتفصيل إلى الأسس الثقافية للأدب العربي القائمة على مبدأ الشفاهية في كتابنا:(الشفاهية وثقافة الاستبداد)، غير أننا نرى أن من المهم أن نعرض فكرة موجزة هنا لفهم السياق التاريخي الذي نتلقى فيه الأدب الرقمي.([1])
في العصر الجاهلي كان الشعر العربي ينتشر بالرواية والإلقاء في الأسواق والحروب (الأيام)، وهذه كانت طريقة حفظه، فلم تكن بيئة العربي الصحراوية التي تجبره على الترحال المتواصل تساعد على تعلم الكتابة واستخدامها، ولهذا كان الشكل الشعري قائما على الصوت بوصفه العنصر الفني الأبرز الذي يقوم بوظيفتين، وظيفة جمالية تتمثل بالتناظرات والتوازيات والمقابلات الصوتية، ووظيفة ثقافية تتمثل بالمساعدة على حفظ ذلك الشعر من الضياع.
وفي العصر الإسلامي وبعد اتساع حقول المعرفة نتيجة للتمدن وظهور الحواضر كان لابد من دخول عصر الكتابة، غير أن الربط التعسفي بين القيم الدينية والقيم الفنية في القرن الأول الهجري أدى إلى أن لا تكون المنظومة المعرفية العربية مهيأة لدخول هذا العصر، فهي نرى أن القديم هو الأصيل ولا أصيل غيره، وان (المحدث) لا يمكن له أن يبلغ شأوه وكل ما يمكنه فعله هو تقليده والنسج على منواله، ولأن الذائقة العربية تعد الصوت ابرز المكونات الفنية، فإنها لم تستطع تقبل الكتابة بوصفها عنصرا فنيا، ولم تر فيها إلا وسيلة لتقييد العمل الأدبي وحفظه من الضياع، ورأى علماء القرن الأول الكتابة منافسا غير شريف للرواية والراوي، فحرّموها واحتقروها، ويمكن هنا أن نشير إلى عبارة ابن سلام الجمحي في مقدمة طبقاته:
” في الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ولا حجة في عربيته ولا غريب يستفاد ولا مثل يضرب ولا مدح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي.”([2])
فابن سلام الذي عاش في القرن الهجري الثاني مازال متمسكا بمعاداة (الكتابية) فالعلماء عنده لا يكتبون والذين يأخذون علمهم من الكتب (الصحفيون) لا يؤخذ عنهم لأنهم ليسوا ممن يوثق بعلمه.
هذا الحكم الذي وضعه علماء عصر الرواية الشفوية ظل ساريا حتى وقت متأخر، ولقد أصبحت كلمة (صحفي) التي تطلق على الراوي الذي يعرف الكتابة شتيمة يتهرب منها العلماء.([3])