الاستشراق ورهاب الأديان – سعيد الغانمي

الاستشراق ورهاب الأديان

سعيد الغانمي

يُقال إنَّ قبيلةً إفريقيَّةً في مجاهل الغابات دخلتْ في حربٍ مع الجيش الفرنسيِّ. فطيَّرَ الفرنسيُّون عليهم طائرةً حصدتهم حصداً. اجتمعَ زعماءُ القبيلةِ وحكماؤُها للتَّداول بشأن هزيمتهم، فرأوا أنَّ الجيش الفرنسيَّ لم ينتصر عليهم إلّا لأنَّ آلهة الفرنسيِّين أقوى من آلهتهم. حينئذٍ قرَّ قرارُهُم على شراء طائرة. جمعت النِّسوة صيغتَها، وأسهمَ الشُّيوخ والشَّباب بما يملكون، ونجحوا في إيصال الطائرة إلى أرض القبيلة. لكنَّهم بدل أن يطيِّروها على الفرنسيِّين، صاروا يرقصون الرَّقَصاتِ العباديَّة حولها، وهم يَتَوَسَّلون إليها أن تهزمَ الفرنسيِّين.

سواء أكانت هذه القصَّة حقيقيَّةً أم مجرَّدَ نكتةٍ، فإنَّها تضعُنا في قلب مفهوم الاستشراق. فالاستشراق هو تعميم رؤية تنميطيَّة ليس للشَّرق وحده، بل للغرب أيضاً معه. ويمثِّلُ موقف الطَّرَفَينِ من الطائرة موقفاً من النَّظرة إلى العالم. فالفرنسيُّون الغربيُّون يتصوَّرون أنَّ الطائرة لا تُسْتَخْدَمُ إلّا كسلاحٍ للإبادة، في حين أنَّ القبيلة الإفريقيَّة لا تتصوَّرُها إلّا كإلهٍ للعبادة. وفي هذا فليس الفرنسيُّون وحدَهُم يطالبون القبيلة الإفريقيَّة بالتَّطابق مع رؤيتهم، بل إنَّ القبيلة الإفريقيَّة تُطالب الفرنسيِّين أيضاً بالتَّطابق مع رؤيتها.

يرد بعض الباحثين بدايات الاستشراق الأولى إلى حقبة المواجهات بين الحضارات الشَّرقيَّة والغربيَّة، ولا سيَّما في الحروب الفارسيَّة الإغريقيَّة. وهم ينظرون بالتالي إلى تقسيمات من طراز “الهيلينيِّين” و”البرابرة” بوصفها صدى لهذه النَّظرة الاستشراقيَّة الطَّبيعيَّة. على أنَّ هذا التَّناول لا يخلو من محاولة البحث عن سابقة. فالثَّقافات التي تحتكُّ ببعضها تتبادل النَّبز. ولا علاقة لهذا بالاستشراق لأنَّه يمكن أن يظهر بين من ينتمون إلى ثقافةٍ واحدةٍ، كالتَّقسيم إلى عرب وعجم، أو حتّى إلى لغة واحدة وبطنٍ قَبَليٍّ واحدٍ، كالتَّمييز بين بكر وتغلب. وهناك لغات تقسّم العالم بضمائر تملُّك تعود للقبيلة وضمائر تملُّك لغير القبيلة. فهل نعدُّ هذا استشراقاً؟ لعلَّ تسمية لحظة المصادمات الأولى بالاستشراق أمرٌ لا يخلو من تسرُّع، أو في أحسن الأحوال فهو استشراق بدائيٌّ. أمّا الاستشراق الحقيقيُّ فينبغي البحث عنه في ظلّ مؤسَّسة ترعاه وتغذِّيه.

اضغط هنا لمتابعة القراءة