
مدخل:
يحدثنا بول ريكور في مفتتح كتابه سطوة الاستعارة بأن المفارقة التاريخية لمشكل الاستعارة هي أنها تصل إلينا من خلال مجال معرفي مات قرابة منتصف القرن التاسع عشر، حين كف عن أن يكون جزءًا من مقررات الدراسة الجامعية بالكليات. وأن هذا الارتباط بين الاستعارة ومجال ميت هو مصدر ارتباك شديد: أليست عودة المفكرين المعاصرين إلى مشكل الاستعارة تلزمهم بمشروع ميئوس منه لبعث البلاغة من رمادها؟ويضيف ريكور أننا لا ‘‘نتلقى نظرية المجاز من مجال ميت فحسب، وإنما أيضًا مقطَّع الأوصال’’. (Ricoeur, 1977, p 8)
إن هذا التوصيف من قبل ريكور ينطوي على تصور يقرن بين الاستعارة والبلاغة بوصفها الحقل الجامع للخطابة والشعرية على النحو الذي تلقيناها به من أرسطو. وقد ظلت الاستعارة لما يربو عن ألفيتين تُعاين، في أغلب أحوالها انطلاقًا من هذا المنظور فيما عدا استثناءات بالغة المحدودية. استثناءات يمكن أن نلمحها لدى فيلسوف استثنائي مثل نيتشه، أو بلاغي عبقري مثل عبد القاهر الجرجاني. أما أن تتحول الاستعارة لتصبح موضوعًا مجاوزًا لحقل البلاغة واللغة وتغدو آلية من آليات التفكير الإنساني جديرة بأن تُدرَس من أجل الكشف عن آليات عمل هذا الأخير، فقد كان لا بد لها من توفر شروط معينة تتجاوز سطوة البلاغة، وكأنه إذا ما كان لنا أن نعود إلى اقتباس ريكور، فقد كان لا بد لها من موت البلاغة بمعناها التقليدي لكي ما يمكن لها أن تُبعث من رمادها، وبعيدًا عن مركزيتها. وهو ما يمكن القول إنه قد بدأ يتحقق مع مولد العلم المعرفي، وتولد اللغويات المعرفية، والدلاليات المعرفية معهما.
من الموضوعية إلى المعرفية
لم تتجاوز اللغويات المعرفية عقدها الرابع بعد، ومع ذلك فإن الآثار التي ترتَّبت عليها تبدو مهولة، إذ إنها أخذت تتحدى العديد من الثنائيات والفرضيات التي هيمنت طويلاً على الوعي الإنساني، مثل ثنائية العقل والجسد، واللغة الحرفية واللغة المجازية، والاستعاري في مقابل الكنائي، والمفهومي في مقابل الخيالي، والموضوعية في مقابل الذاتية وسواها. إن مارك جونسون في كتابه الجسد في العقل يوجز لنا هذا المشهد الذي ينفصل ويستقل فيه العقل عن الجسد، والخيال عن الإدراك والفهم والتفكير، أو معالجة الدلالة والذي ظل سائدًا ومهيمنًا على أغلب النظريات والمقاربات اللغوية، إذ يرى أن الغياب الكامل لدراسة وافية عن الخيال في أكثر نظرياتنا فعالية عن المعنى والبنية الذهنية لهو عرض لمشكل عميق في رؤانا الراهنة للإدراك الإنساني. والإشكال، من منظوره، ليس مجرد نوع من الغفلة؛ بحيث إننا قد نسد الفجوة ببساطة بإضافة فصل هنا أو هناك عن الخيال في نظرياتنا عن العقل واللغة والمعرفة. بل إن المشكل أكثر إزعاجٍا بكثير، لأنه يتعلق بتوجهنا الكامل إزاء هذه القضايا، وكأنه توجه مؤسَّس على مجموعة من الافتراضات المسبقة المشتركة على نطاق عريض، افتراضات تنكر أن للخيال دورًا مركزيًا في تكوين العقلانية. (Johnson,1987,p ix) كما يرى أن التصور الخاص بالموضوعية وبهذه الحزمة من الفروض المباطنة لها هي التي قادت إلى هذا العمى إزاء الخيال.