أولاً: القصيدة

 الكونُ قصيدةٌ عمودية

 عبد المقصود عبد الكريم

في البَدْءِ كان الكَونُ قَصيدةً نَثْريةً

تَبتكرُ الحُبَّ وتَمرحُ فيه،

قَصيدةً تَتبدَّلُ كلَّ لحظةٍ لتَفرَّ من الرَّتَابةْ،

في البَدْءِ كانتِ القَصيدةُ طَقْسًا وحياة

وكانَ الكَونُ يَدورُ طِبْقًا لهوَاها.

كانَ يُمكِنُ للشَّاعرِ، مثلًا، أن يَستَدعِي الشَّمْسَ بقصيدةٍ نثريةٍ ويَصْـرفَها بقصيدةٍ نثريةٍ، يُمكنُه أن يزوِّجَ النهارَ من الليلِ ليُنْجِبَا أيَّامًا صَغيرةً وبَهيَّةً، أيَّامًا يَحتضِنُها دِفْءُ الشَّمْسِ وترضعُ من أثداء القمرْ

أيَّامًا لا تتشابهُ حدَّ الرتابةْ

وكُلَّما شاختْ تَرحلُ وتَأتي أيَّامٌ يافعةٌ

بقمرٍ جَديدٍ وشمسٍ جَديدةْ.

ولما تضخَّمَ غباءُ الإنسانِ، وشاخَ وِجْدانُه، قلَّم أَطرافَ الكَونِ وقيَّد قلبَه بكوكبةٍ من القواعدِ المنتظِمةِ ليُصبحَ الكَونُ رتيبًا مثل قصيدةٍ عموديةٍ.

وربما قبلَ أنْ يختنقَ الكونُ

ويلفظَ آخرَ أنفاسِه في تفعيلةٍ أو قافيةٍ

يكتشف الإنسانُ خطيئتَه

ليصبحَ الكونُ مرةً أخرى،

قصيدةً نثريةً

تبتكرُ الحبَّ وتمرحُ فيه.

                                    ************

انطلاقًا من عنوان هذه القصيدة نتوهم، للوهلة الأولى، أننا إزاء إدراك شعري مباشر للكون، الكون بوصفه شعرًا، أو الكون بوصفه قصيدة على نحو ما يُحِيلنا عليه طرفا الجملة الاسمية الأساسية الحاضرة في عنوان القصيدة ’’الكون قصيدة (عمودية)‘‘؛ لكن ما أن نُكْمِل قراءة العنوان ونصل إلى وصف الخبر أو وصف القصيدة، وأنها ’’قصيدة عمودية‘‘، على نحو ما تُنْبِئُنا عتبة القصيدة الأولى الماثلة في العنوان، حتى يراودنا نوع من الشك تجاه شعرية هذا الكون، وكأن العنوان ينقض نفسه بنفسه، أو ينفي الشعرية عن هذا الكون عبر وصف العمودية هذا. إذ ما نلبث ننتقل إلى السطر الأول من القصيدة، حتى يتكشَّف لنا أن شعرية الكون التي توهَّمْناها في العنوان ليست هي شعرية الكون التي نواجهها في السطر الأول من القصيدة، مثلما ندرك أيضًا أننا إزاء كونين مختلفين، بل ضدين، كون العنوان الذي يشير إلى الحاضر ويحيل عليه، وعلى شعريته العمودية، وكون البدايات الذي انطلق من شعرية أخرى مغايرة هي شعرية قصيدة النثر. هكذا تُؤسِّس القصيدة تعارضاتها من البداية، ابتداء من العنوان والسطر الأول من القصيدة، لنجدنا في حضرة قصيدتين على النقيض تمامًا من بعضهما البعض؛ وبالتبعية في حضرة كونين متباينين تمامًا نتاج تباين هاتين القصيدتين. مثلما نجدنا أيضًا في حضرة زمنين نقيضين، زمن القصيدة العمودية الحاضر، وزمن البدايات الماثل في زمن قصيدة النثر. وعبر هذا التعارض تخلق القصيدة، التي ليست سوى قصيدة نثر، أسطورتها الخاصة التي هي في الواقع أسطورة قصيدة النثر، كأسطورة جديدة تُضاف إلى أساطير البدايات وأوئل الخلق، وتُماهِي هكذا بين كون البدايات وقصيدة النثر، لتصبح قصيدة النثر، وفق أسطر ورؤى هذه القصيدة، طاقة خلق سحرية قادرة على اللعب بمفردات الكون المختلفة عبر طقوس مختلفة ومتنوعة من طقوس اللعب والحب، وكأن تلك القصيدة رُقْيَاتٌ أو تعاويذُ سحريةٌ قادرة على كسر الرَّتابة والملل، من خلال تبديل وتحويل الكائنات، لنصبح في حضرة قصيدة النثر وكأننا في عالم أوفيدي بكل معنى الكلمة، عالم لا يكف عن الخلق والإبداع والتحويل والتبديل، عالم لا يكف عن التحول من صورة إلى صورة، ومن ماهية إلى أخرى، وكأن قصيدة النثر هي في جوهرها فعل التكوين والكينونة، وكأنها الفعل ’’كُن‘‘ في سفر التكوين الذي تتوالد من رحمه أو من نونه الأشياء والأحياء جميعًا، حيث القصيدة ليست مجرد مجموعة كلمات تحيل على مجموعة من الدلالات، وإنما طقس من طقوس الحياة وشعيرة من شعائر الخلق، طقس يفرض أهواءه على الوجود فيصوغ الوجود على هواه؛ وكأننا نتناص بصورة ما مع مُفتتح إنجيل يوحنا: ’’في البدء كان الكلمة. …  كل شيء به كان و بغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة و الحياة كانت نور الناس‘‘ (يوحنا، الإصحاح الأول، 1-4) ولكن مع استبدال قصيدة النثر بالكلمة؛ إذ كان يمكن للشاعر أن يجلب الشمس بقصيدة نثرية ويصرفها أيضًا بقصيدة نثرية أخرى، يمكنه أن يُزوِّج النهار من الليل فينجبا أيامًا صغيرة بهية، وكأن اليوم ذاته في حضرة قصيدة النثر كان له حضور آخر مغاير ومختلف عن ذاك الحضور الذي صار له مع القصيدة الأخرى الدخيلة على فضاء الشعر، تلك القصيدة التي فرضت إيقاعاتها الرتيبة المنتظمة على شعرية الكون، وكأن إيقاع الزمن نفسه وسطحه قد اختلفا ما بين القصيدتين، من الصغر والبهاء إلى نقائض الصغر والبهاء، أو إلى الاستطالة والدمامة، بينما في حضرة قصيدة النثر تحتضن الأيامُ دفءَ الشمس، وترضع من أثداء القمر، وكأن الأيام ابنة هذا اللقاء الحميم بين إله هو الشمس وإلهة هي القمر، والزمن يولد وينساب من ثنايا هذا اللقاء النوراني الفريد، المُفعم بالحب، والتجدد، زمن لا يعرف الرتابة ولا يحكمه مبدأ التكرار أو العود الأبدي، زمن متفرد، يُنوِّع إيقاعاته وفق حرارة الحب، زمن آخر لا يكرر نفسه، زمن آخر يبتكر أيامه وإيقاعاته الخاصة،  كلما شاخت أيامه ارتحلت وحلَّت محلها أيام يافعة فتية، أقمارها جديدة، مُتْرَعَةٌ بالحليب وبالحب، وشموسها أيضًا جديدة وعفية.