المقدّمة

لم يلقَ قصر أندلسيّ من الاهتمام والبحث والدّراسة مثلما لقي قصر الحمراء في غرناطة بني نصر، ولا سيّما أنّه من القصور الأندلسيّة القليلة الّتي نجا جزء كبير منها من عاديات الزّمن، وعدّه الكثير من الدّارسين “المثال الحيّ للثّقافة الإسلاميّة إلى حدّ أنّ المخيّلة الشّعبيّة والعالية الثّقافة على السّواء، نسجتا خيالاتهما الاستشراقيّة حوله منذ أوائل القرن التّاسع عشر”[i]، في حين يرى أولغ غرابار “أن هذا القصر نسيج وحده في العمارة الإسلاميّة”.[ii]

وقد نشأ جدل بين الدّارسين حول وظيفة هذا القصر بأجزائه المتعدّدة وقاعاته وأبهائه الواسعة نظرًا للغموض المحيط بأسلوب تصميمه، ما دفع معه بعض الدّارسين إلى المبالغة في أسطرته، ومنهم جيريلين دودز الّتي ترى أنّ “الغاية من قصر الحمراء أن يجتمع فيه السّموّ والزّخرفة لإضفاء مزيد من الغموض والتّعقيد على صورة هذا القصر، فهو لم يكن مجرّد استمرار لمزاج نفسيّ في بناء القصور يمتدّ إلى القصور الأولى في الشّرق الأوسط، بل هو استحضار واعٍ للحسّ الأسطوريّ في القصور. إنّها في الواقع أسطورة القوّة والثّروة الّتي كانوا بحاجة إليها لتعزيز النّشاط الثّقافيّ لآخر حكم إسلاميّ في شبه الجزيرة الإيبيريّة”[iii]، وقد سيطرت هذه الرّؤية الأسطوريّة على الباحثة بسبب هيمنة ما يسمّى بنبل المشهد البصريّ الّذي غالبًا ما يؤدّي إلى المبالغة في كيل المديح[iv]، ولا سيّما إذا كان هذا المشهد شكلاً من أشكال المؤسّساتيّة للسّلطة السّياسيّة، وسخّرت في سبيل تشييده كلّ إمكانات المؤسسّتين الاقتصاديّة والمعرفيّة المنضويتين تحت جناحها لبلوغ أقصى غاياتها في ممارساتها السّلطويّة.[v]

ولعلّ أبرز ما يميّز هذا القصر بنى التّكرار السّائدة في جميع أجزائه؛ تلك الّتي تثير دهشة المتلقّين وإعجابهم بل انبهارهم أحيانًا، حتّى غدت –كما يرى بيرغل-مصدرًا للبهجة تزيد بازدياد تلك البنى، وقد تبلغ حدّ الانتشاء أو الوجد[vi]، وهذا واحد من أهمّ مكامن الخطورة، فثمّة وظيفة جماليّة ظاهريّة لهذا المكان بعنصريه؛ عمارته الحجريّة وخطابه الشّعريّ، الممتزجين امتزاج الجسد بالرّوح حتّى لتكاد الحياة تتنفس في كلّ زاوية من زواياه، مع أنّ أوّلهما نسكن فيه وثانيهما يسكن فينا.وتكمن وراء ذلك النّسق الجماليّ عناصر نسقيّة مضمرة أفرزت وظائف نسقيّة غير جماليّة، تسلّلت بفاعليّة التّكرار المتعمّد أو العفويّ لنمط البناء إلى (لا وعي) المرسل/ الشّاعر المصدِّر للخطاب الشّعريّ والمتأثّر الأوّل بهذه البنى المكرّرة، والمستقبل/ المتلقّي أو الجمهور المصدَّر له هذا الخطاب والمتأثّر الثّاني به[vii]، ونجحت بذلك في الكمون والاختباء عن عين الرّقيب النّقديّ المنشغل بالوظائف الجماليّة لتلك النّقوش الشّعريّة، “وهو ما يمكّنها من الفعل والتّأثير غير المرصود، وبالتّالي تظلّ باقية ومتحكّمة فينا وفي طرائق تفكيرنا”.


[i] غرابار، أولغ، نظرتان متضاربتان إلى الفنّ الإسلاميّ في شبه الجزيرة الإسبانيّة (نظرة عامّة)، ترجمة محمّد الأسد، في كتاب: “الحضارة العربيّة في الأندلس”، تحرير: سلمى الخضراء الجيّوسيّ، ط1، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 1998، ج2، ص845

[ii] المرجع السّابق.

[iii] دودز، جيريلين، فنون الأندلس، ترجمة: جاسر أبو صفيّة، في كتاب: “الحضارة العربيّة في الأندلس”، ج2، ص880.

[iv] انظر: بعليّ، حفناويّ، مدخل في نظريّة النّقد الثّقافيّ المقارن (المنطلقات، المرجعيّات، المنهجيّات)، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، الدّار العربيّة للعلوم-ناشرون، لبنان، 1428ه/ 2007م، ص272

[v] انظر: فوكو، ميشيل، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: علي مقلّد، مركز الإنماء القوميّ، لبنان، 1990، ص248

[vi] بيرغل، ج.ك.، النّشوة والانضباط في الفنّ الأندلسيّ: خطوات نحو مقترب جديد، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، في كتاب: “الحضارة العربيّة في الأندلس”، ج2، ص893

[vii] يرى جوستاف لوبون أنّ ذوبان الشّخصيّة الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار في اتّجاه واحد يشكّل الخصيصة الأولى للجمهور الّذي هو في طور التّشكّل، فالكفاءات العقليّة للبشر، ومن ثمّ فرادتهم الذّاتيّة تمّحي وتذوب في الرّوح الجماعيّة، فلا يعود الفرد المنخرط في الجمهور واعيًا بأعماله، وحالته تشبه حالة المنوّم مغناطيسيًّا، فتدمَّر بعض ملكاته، ويستثار ويستنفر بعضها الآخر إلى الحدّ الأقصى.

 انظر: لوبون، جوستاف، سيكولوجيّة الجماهير، ترجمة وتقديم: هاشم صالح، ط1، دار السّاقي، لبنان، 1991، ص53-61