د. حيدر الكعبي

دكتوراه في الأدب والنقد الحديث

لعل من الميزات الكبرى في روايات سلام إبراهيم هو ذلك الغنى والثراء الكبير في عدد الشخصيات الرئيسية والثانوية والهامشية وهذا ما نشهده عند قراءتنا لأعماله الروائية, الكثافة في كل شيء ومنها الكثافة في حضور الشخصيات, إن شخصيات سلام إبراهيم تتصف بالعمق في البناء من ناحية التحليل النفسي الذي يظهر خباياها و تفاعلاتها وكوامنها النفسية، والتي تظهر على شكل تصرفاتها في النص فقد يسردها المؤلف مباشرة أو يجعلها متداولة في حوارات الشخصيات أو من خلال وصف مباشر لتلك التصرفات، كما تتشابك علاقة الشخصية الرئيسة في بنية النص السردي مع باقي الشخصيات الأخرى على اختلاف أنواعها الرئيسة أو الثانوية أو دون ذلك، ويحرص سلام إبراهيم على إضاءة كل الجوانب الاجتماعية والفكرية والجسدية التي تشمل تلك الشخصية، ففي رواية حياة ثقيلة مثلا يطل علينا الكاتب بثلاث شخصيات رئيسة هم (أحمد وسعد وحسين)، تدور حولهم أحداث الرواية لكن بصورة منفصلة حيث لا تتشابك الأحداث في الرواية لتدخلهم في حدث مهم بل تسير بصورة متوازية من خلال علاقتهم بالبطل “سلام” والرابط الوحيد بينهم أنهم شخصيات يسارية معارضة ترتبط بعلاقة مع بطل الرواية وتنتهي الشخصيات الثلاث نهايات مفجعة أليمة, فأحمد يقتل في الأحداث الطائفية التي اجتاحت العراق بعد الاحتلال الأمريكي و “سعد” يضيع في سجون السلطة بعد أن نزل من الجبال ليعرف التداعيات الخطيرة التي ألمت بأسرته أثناء غيابه و بالأخص عن مصير زوجته الفاتنة وزواجها من ضابط الأمن بعد أن قامت بإجراءات طلاق غيابي منه و “حسين” مات منتحرا من جراء تناوله جرعات مميتة من الخمر بعد مكابدات عنيفة من العذاب اثر اختطاف ابنته الكبرى والتي لم يُعثَرْ عليها أو على جثتها. قسّم الكاتب روايته إلى ثلاثة فصول، كل فصل يسرد قصة شخصية من الشخصيات الثلاث والرابط هو “سلام” البطل العائد من الغربة إلى العراق والذي يبحث عن أصدقائه حسين وأحمد فيما تبحث عنه ابنة سعد وباقي إخوانها للاستفهام عن مصير والدهم تسير الأحداث بين البطل والشخصيات بصورة متوازية زمنيا فهو يذكر انه اخبر بنبأ مقتل “احمد” وهو يبحث عن جثة فيروز ابنة حسين، الشخصيات الثلاث الرئيسة تقترن بشخصيات أخرى ثانوية وهامشية متنوعة الأدوار والوظائف تشارك في ترصين البناء السردي للرواية وسنتناول نموذجا من تلك الشخصيات، شخصية “أحمد” الذي يتناولها المؤلف في الفصل الأول المعنون  “لبناء عام جديد”

1- أحمد  الشخصية الرئيسة في رواية “الحياة ثقيلة”

تمتد علاقة بطل الرواية مع أحمد إلى مرحلة الطفولة وبالتحديد مرحلة الدراسة المتوسطة في حقبة زمنية تمتد إلى أربعين عاما من المصاحبة يبدأ المؤلف بتعريف شخصية “أحمد” من المظهر الخارجي بقوله : (أستطيع في هذه اللحظة رؤيته على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما، بقامته الفارعة، ووجهه المدور، وعينيه الواسعتين، ووجنتيه الناتئتين، وانفه المتناغم مع قوة وضخامة القسمات، وشفتيه الغليظتين الشبيهتين لشفتي أفريقي، شكل هو مزيج من مغولي وأفريقي ببشرة بيضاء ناصعة نضرة . ) يسرد المؤلف بطريقة الاسترجاع أحداث جمعته مع أحمد – الشخصية الرئيسة – في مستهل عمر المراهقة والشباب ونعلم من خلال رواية البطل أن أحمد يكبره بأربع سنوات وينحدر من عائلة فقيرة يمتهن رب الأسرة – الأب – بيع الخضرة في السوق ويتم فصله من الدراسة الإعدادية لعدم تجاوزه مرحلة البكالوريا ويساق لأداء الخدمة الإلزامية في الجيش يسرد لنا المؤلف أن احمد لم يكن متدينا في بداية حياته وكان يؤمن بالأفكار الماركسية اليسارية وعمل بالخفاء التام جدا في صفوف الحزب الشيوعي وكان ذلك يتسبب له بالكثير من الانتقاد والاعتراض من قبل والده الذي كان متدينا والذي كان سلام- البطل – يكن له كل الاحترام والتقدير حتى انه رافق- احمد – ليلة وفاة والده إلى المسجد الذي توضع فيه الجنائز حتى الصباح ليتم نقلها إلى مقبرة وادي السلام في النجف فيقول :

(كان صوت العويل والصراخ ينتشر في أرجاء البيت، وكنا نتضايق من طقوس الموت العراقي بحزنها الدامي الذي لم أجد شبيها له في تجوالي بمناحي الأرض. شق الثوب من الصدر حتى القدمين، لطم الصدر حتى الإدماء، تجريح الخدود بالأظافر،

قلت:

 – احمد ما موقعنا وسط النسوان ؟ 

قال:

– ساعدني أريدك فقط تقنعهنَّ بنقله إلى جامع ( البو دخن ) وإلا سيهلكن من البكاء واللطم. 

صمت قليلا ثم أضاف: 

– صعبة عليَّ اطلب نقله .

دخلت الغرفة المحشودة بالنساء وقلت لهن: 

– ما يجوز يبات هنا لازم ينقل لبيت الله .)

يقدم لنا المؤلف كافة ألوان الصورة عن الشخصية فهو من عائلة بسيطة تسكن في محلة شعبية من مدن وسط العراق وهي الديوانية والحدث يدور وسط تقاليد شعبية عراقية معروفة في إيغالها بصور من الحزن الدامي المنهك للإنسان، ثم يستمر في وصف تلك الواقعة التي لها اثر كبير في مكانة البطل لديه فيقول : 

( ذهبنا إلى الجامع وجلبنا تابوتا خشبيا قديما من توابيت الوقف .

اخترنا أطولها، فأبوك كان طويل القامة، ناحلها، وضعناه في تجويف خشبته وحملناه بمساعدة جيرانكم وأقربائكم إلى الجامع الذي لا يبعد عن بيتكم سوى خمسين مترا. ليلتها بتنا في قاعة الجامع المفروشة بالسجاد، الواسعة المنارة بمصابيح خافتة الضوء معلقة في الزوايا. رقدت قربك جوار التابوت على السجاد ملتحفين كل ببطانية بعد أن غادرنا الجميع كنت غير مصدق إن أباك الراقد في جوف الخشبة لن تسمع صوته أبدا، وكنت حائرا بكيفية تدبير معيشة عائلتك فأنت أكبرهم، ولديك أخ يصغرك تطوع في الجيش يساعد العائلة)