تحت جدارية فائق حسن


سعدي يوسف
تطير الحمامات في ساحة الطيران.
ارتفعنا معا.. في سماء الحمائم.
قلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب…
هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا
أوان الرحيل إلى المدن الفاضلة.
يقول المناضل: إنا سنبني المدينة.
تقول الحمامة: لكنني في المدينة.
تقول المسيرة: دربي إلى شرفات المدينة
تطير الحمامات في ساحة الطيران.البنادق تتبعها،
وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم.
يقول المقاول جئنا لنبقى , تقول الحمامة هل قال حقا
يقول النقابي ان السواعد ابقى
للحمامة وجهان:
وجه الصبي الذي ليس يؤكل ميْتاً, ووجه النبي
الذي تأكله خطوة في السماء الغريبة.
قلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب:هذا أوان
الدموع التي تضحك الشمس فيها
يدور المحرك، ينفث في ساحة الطيران دخانا ثقيلا
, ويترك بين الحمائم والشجر المتيبس رائحة من شواء غريبة
تطير الحمامات في ساحة الطيران. تريد جدارا لها
ليس تبلغ منه البنادق أو شجرا للهديل القديم
بنينا ملاذا لنا، وغصونا تنامين فيها ونحن هنا في الرصيف
يا بلاد البنادق
إن الحمامات مذبوحة، والجدار الذي قد بنيناه بيتا وغصنا،
ينز دما أسودا، ويهز يدا مثقلة.
وقلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوان
الدمـوع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوان
الرحيل إلى المدن المقبلة.
ولكننا يا بلاد البنادق كنا صغارا، فلم نلتفت
لإله الجنود، ولم نلتفت للحقائب مثقلة
… نحن كنا صغارا… أقمنا جدارا ونمنا على مضض،
وطني، زهرة للقتيل، وأخرى
لطفل القتيل، وثالثة للمقيمين تحت الجدار.
اخر تحديث الأحد، 27 أكتوبر/تشرين أول 2019
تظل قصيدة سعدي يوسف (تحت جدارية فائق حسن) مثيرة للانتباه دائما، مكتنزة بحمولتها الدلالية والفكرية؛ وعلى الرغم من أنها مكتوبة كهامش على لوحة أو (جدارية) هي جدارية الفنان فائق حسن المعروفة في ساحة الطيران ببغداد، فإن شهرتها بين قصائد سعدي صارت توازي شهرة الجدارية نفسها بين أعمال فائق حسن. وهي، مثل الجدارية، تعرض صورًا لفظية مركبة يختلط فيها السياسي والاجتماعي الطبقي، والحزبي العقائدي، والشعري التصوري الذي يمثل الإطار البلاغي والتخيلي والفكري العام.
والتفاعل بين العملين الفني بشكله المعماري المستطيل وألوانه الموزائيكية المشعة، وطريقة تشكله الفنية واكتضاضه بنماذج بشرية عراقية مختلفة تتوزع بين رجال ونساء، جنود وطلاب وعمال، إضافة إلى الحمائم التي يبدو قفصها فارغا أسفل الصورة بعد أن جرى إطلاقها وتحريرها وسط فرحة الجميع، بما فيهم الطفل الذي يعطي المشاهدين ظهره ويرفع يديه إلى أقصى ما يستطيع في أسفل الجدارية، كأنما ليحلّق مع الحمائم المنطلقة من الأكف المرتفعة في أسفل الجدارية وأعلاها، هذا التفاعل يتعدى إطار التأثير الذي مارسته اللوحة على القصيدة وكان دافعًا لكتابتها، ثم ارتدادها كمتأثر ليغدو مؤثّرا، وليحول اسم الجدارية نفسها من “جدارية الثورة” (وهو الاسم الذي اطلق عليها بعد عام 1958) إلى “جدارية فائق حسن” بعد كتابة قصيدة سعدي يوسف عنها عام 1973. وهو أمر نادر الحدوث على صعيد العلاقة التفاعلية بين عمل فني قوامه الألوان والصور المرسومة، وعمل شعري قوامه الكلمات المنظومة، وكذلك على صعيد تداولية النص الشعري وشهرته، ومدى تأثره وتأثيره فيما عداه.
وكما أن الجدارية قد تعرضت لتاريخ من المحو والتغيير الذي طمس بعض معالمها وغطّى لفترة حماماتها مع قفصها باللون الأسود الكالح إثرَ التغيير السياسي الذي حدث في حركة 8 شباط 1963، فإن القصيدة قد خضعت، هي الأخرى، لتعديلات عديدة قام بها الشاعر نفسه في فترات مختلفة من حياته، كان آخرها عام 2009.
