جادت علي الأيام بمعرفة الأديب الشامل الكبير الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، معرفة غدت صداقة وثيقة بتواصل شبه يومي في أعوامه الأخيرة في تسعينيّات القرن الماضي، وكانت أعوام حصار اقتصادي وثقافي عالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. حصار أودى بحياة الآلاف من العراقيين وأطبق خناقه على الكل، فرحل الكثير من مثقفيه وأدبائه وفنانيه، ومات منهم آخرون محسورين بعد أن باعوا أعزّ مقتنيات أرواحهم، أعني بها مكتباتهم ومخطوطاتهم. في تلك الأعوام الحزينة الرمادية التي توقفت فيها الحياة وتراجعت المظاهر والأنشطة الثقافية والفنية والعلمية في البلاد وانقطع العراقيون عن العالم الخارجي وكف الزوار من عرب وأجانب عن زيارة البلاد، بعد أن كانت محجّاً للعلم والثقافة، كان جبرا يعيش الحصار الخانق مع العراقيين ويعاني ما يعانونه تماماً كما عايش في حقب أخرى أفراحهم وانجازاتهم الثقافية والحضارية. 

في سنوات الجمر تلك وتحديداً في الأعوام (1990- 1994) توثّقت صداقتي بالمعلّم جبرا كما كان يروق لي أن أناديه، وفي كل مرة كان يعترض بقوله إنه ليس معلماً بل صديقاً، بكلماته التي تنبثق من تواضعه الجم وألفته ورقي طباعه في التعامل معي ومع الجميع. وهكذا بات لقاؤنا نوعاً من تزود ثقافيّ ومعرفيّ وإنسانيّ لمقاومة الضغط النفسي الهائل الذي ولّده الحصار المحكم الذي تسبب في عزلة تامة للعراقيين عن العالم وحركته، فانقطعت الصحف والكتب والمجلات العربية والأجنبية، فضلاً عن الدواء والغذاء وأبسط مستلزمات العيش، وغدا العراق زنزانة محكمة الإغلاق من الخارج والداخل، وجوع بكل معانيه ومستوياته يطبق قبضته على أرواح الناس وأجسادهم وعقولهم. 

في تلك الأعوام الكابية كان اللقاء نوعاً من عزاء لكلينا، تارة يزورني هو في مقرّ عملي في (دار المأمون)، وأخرى أزوره أنا في منزله القريب من منزلي، مع تواصل هاتفيّ يكاد أن يكون يوميّاً. وكنت في كلّ مرّة التقيه أغتني كثيراً بالتحاور معه، مثقفاً متفرداً وإنساناً كبيراً، فهو نموذج ندر نظيره من الأدباء في أدبنا العربي. جبرا المقيم أبداً في المسافة ما بين الأشياء كلها كان يسحرني، فهو ليس بالفلسطينيّ ولا هو بالعراقيّ، كما أنه أيضاً ليس بالمثقف العربيّ التقليديّ المحليّ ولا هو بالمثقف المنبهر حدّ الاستلاب بالغرب وأدبه. 

جبرا الذي انطلق من فضائه المحليّ الصغير إلى الكونيّة الرحبة وفتن الملايين من قرّائه بأدبه وإنجازه وشخصيته، أسرني بنموذجه الذي يتفلّت من أي تصنيف تقليديّ للمثقف العربيّ، بموقفه من الأدب والثقافة حتى آخر لحظة من حياته. لذا ظلّ المعلم جبرا عصيّا على التصنيف، لأنه كان أكثر من كاتب، وأكثر من روائي، وناقد أدبي وفني، ورسّام وشاعر، بل هو نخبة من كل هؤلاء، وشخصية متفردة تذكّر بمفهوم الأديب الشامل بالمعنى النهضويّ للكلمة. 

اضغط هنا لمتابعة القراءة