مرتضى الجصاني
إبراهيم أبو طوق، فنان تشكيلي وخطاط عربي، استطاع أن ينسج من الخط العربي مشروعًا فنيًا متفردًا، متجاوزًا النمطية الأكاديمية التي غالبًا ما تحكم هذا الفن العريق. عبر سنوات طويلة من البحث والتجريب، تمكن من صياغة رؤية بصرية تتشابك فيها الحروفية بالتصويرية، حيث لم تعد الحروف عنده مجرد تشكيلات جامدة تخضع لقواعد مدرسية صارمة، بل كيانات حية تنبض بالحركة والتجريد، في سعي منه لإعادة تعريف العلاقة بين الحرف والفراغ، بين اللون والخط، وبين الموروث والتحديث
ولد أبو طوق في عمّان عام 1958، ودرس الهندسة المعمارية، وهو ما انعكس بوضوح على أعماله، حيث يظهر الحس الهندسي في تكويناته التي تتسم بالدقة والتوازن. لكن شغفه بالخط العربي قاده إلى البحث عن منطق آخر، أكثر تحررًا، أكثر تجريدًا، حيث عمل على تفكيك البنية التقليدية للخط العربي وإعادة تركيبها وفق رؤى جمالية معاصرة. لم يكن الحفاظ على الخط كتراث محض يشغل أبو طوق بقدر انشغاله في استلهام التراث ودفعه نحو مناطق جديدة من التعبير، في محاولة لاستكشاف إمكاناته الكامنة بعيدًا عن القوالب السائدة
تجلت هذه النزعة في ابتكاره لما أطلق عليه “خط البتراء”، وهو محاولة جريئة لإعادة قراءة الحرف العربي من منظور معماري، حيث تتجلى الصرامة الهندسية في البناء، لكنها في الوقت ذاته لا تلغي حسّ السيولة والانسيابية التي تميز الخط العربي. هذا التوجه يضعه ضمن منطقة خاصة يكاد ينفرد بها، حيث يسعى إلى خلق لغة بصرية تتجاوز البعد اللغوي للحرف، لتؤسس لحوار بين الخط والفن التشكيلي، وهو ما يجعله يغرد وحيدا في فلسفته مبتعدا عن تجارب الحروفيين العرب وكذلك مبتعدا عن النمط الكلاسيكي، حيث خلق بصمة خاصة.
في أعماله لا تشبه غيره، يسعى أبو طوق إلى تحرير الحرف من ثقل المعنى اللغوي، ليغدو كيانًا بصريًا قائمًا بذاته، لكنه في ذات الوقت لا ينفصل عن جذوره الثقافية. إنه يفكك البنية التقليدية للحروف ثم يعيد تركيبها بطريقة تمنحها بعدًا ديناميكيًا، من خلال الكتلة والإيقاع المتوازن، وكأنها محاولة لالتقاط نَفَس الموسيقى في التكوين البصري. هذا ما يجعل أعماله أشبه بنوتات لحنية تُقرأ بصريًا، حيث تتراقص الحروف داخل المساحة، متحررة من قيود الخط المتعارف عليها
ورغم هذا الطابع التجريدي، فإن مشروعه لا ينفصل عن البعد الروحي الذي طالما ارتبط بالخط العربي، لكنه يتجلى عنده بصيغ أكثر حداثة، حيث يبدو الحرف وكأنه في حالة صعود، انفلات، ارتقاء نحو فضاء مفتوح، في حركة أقرب إلى إيقاع التصوف البصري. ومن هنا، فإن أعماله ليست مجرد لوحات خطية، بل هي نصوص بصرية تحتفي بالحرف كطاقة تعبيرية، حيث يتحول التركيب الخطي إلى معنى، والخط إلى تجربة روحية بصرية تتجاوز حدود الكلمة المكتوبة.
واجه أبو طوق، كما كثير من مجايليه، إشكالية العلاقة بين الحرفية والفن، بين الخط والفن المعاصر، لكنه لم يسقط في فخ الزخرفة أو الفلكلورية، بل سعى إلى إيجاد خطاب بصري قادر على أن يكون معاصرًا دون أن يتنكر لجذوره. إن الحرف عنده ليس مجرد وحدة لغوية، بل هو كتلة تشكيلية قابلة للتأويل، تمامًا كما أنه ليس مجرد عنصر جمالي، بل حامل لذاكرة ثقافية وحضارية تمتد عميقًا في الزمن العربي. ومن هنا، فإن أعماله يمكن قراءتها كثيفًا بصريًا يلتقي فيه التراثي بالحداثي، في جدلية لا تفقد الحرف هويته، لكنها تمنحه إمكانات جديدة.
في ظل التحولات الرقمية التي طالت فن الخط، وجد أبو طوق نفسه أمام تحديات جديدة، حيث لم يعد الخط العربي حكرًا على الممارسة اليدوية، بل بات جزءًا من مشهد بصري أوسع، تداخلت فيه التقنيات الرقمية مع أساليب الطباعة الحديثة. لكنه رغم ذلك ظل وفيًا لرؤيته الخاصة، محاولًا أن يؤسس لجماليات خطية تنتمي إلى اللحظة الراهنة، دون أن تفقد روحها المتجذرة. فالحرف عنده كائن متحوّل، يتنفس، يتراقص، يتلاشى، ثم يعيد تشكيل ذاته في مساحات جديدة من الدهشة والتأمل.
إن تجربة إبراهيم أبو طوق تقدم نموذجًا لفنان لم يتوقف عند حدود المدرسة التقليدية، بل سعى إلى توسيع أفق الخط العربي، بحثًا عن إمكاناته غير المكتشفة. وهو في هذا لا يقدم إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة بصرية، حيث يصبح الحرف عنده مساحة مفتوحة للتأويل، لا تقبل التحديد بقدر ما تدعو إلى التأمل. هكذا، تظل أعماله دعوة لاستعادة الحرف ككائن حي، قادر على أن يتجدد، أن يتجاوز ذاته، أن يظل في حالة بحث دائمة عن شكل آخر، عن فضاء آخر، عن معنى لم يُكتب بعد.