في أرض الدحنون حكاياتٌ يرويها حجرٌ ينبُض فيه الضوءُ

 الأثريُّ على مرِّ الأزمان. حكاياتٌ تُسردها الجداتُ،

الأسماءُ، عيونُ الماء، وزهورُ الليمونِ

حكاياتٌ يرويها حجرٌ العقد بقنطرة البيتِ

ويحكيها المنجل والممشى وطواحين القمح ومفتاحُ الباب

 وصقرٌ حوّامٌ في المعنى..”

  يحتلُّ الحديث عن المعنى أو ما يسميه الشاعر هنا (صقر المعنى) موقعًا أساسيًا في القصيدة منذ المقطع الأول فيها. فهو يحوّم بين عباراتها وحروفها من دون أن نعثر له على صورة محددة تبيّن معنى معناه في غير تلك الأوصاف التي تتصل بفلسطين كلّها جغرافيةً، وتاريخًا، ومحتلّا غاصبا، ثمّ أملا متسعا ينتهي فيه الاحتلال البغيض، ويعود الضوء إلى أرض الضوء، على حدّ تعبير الشاعر.

 أي أنه ليس هناك معنًى فلسفيٌّ، ولا ديني ولا نحوي، أو بلاغي يترجّحُ مترددا بين شكل العبارة ومضمونها، وإنما هو في بعض ما يتبيّنُ لنا من وجوهِهِ هنا أقربُ إلى الواقع السياسي والعاطفي الذي يمتدُّ من البحر إلى النهر، وينطوي عليه كلُّ شيءٍ تحطّ عليه الذكرى، وتلمسه عصا كلمات الشاعر السحرية من أشياء أرض فلسطين الحاضرة رغم غيابها، أو حيرتها وحيرتنا معها بين المعنى والمبنى. وحيث يظل الشاعر باحثاً عن ظلال طفولته المفقودة مثل طفلٍ يُطارد طائرته الورقية التي انقطع خيطها الرفيع، أو حبيبته الطفلة التي كان يلعب معها، قبل خروج عائلته أو إخراجها منها، فيما بقيت روحه المولودة خارجها هناك تحوّم مع ذلك الصقرِ باحثةً عن المعنى والدلالة في كلّ شيء.  

 فهذا المعنى “خيطُ حرير يربطُ أرضا وسماء، والخطّ الأفقيُّ يؤاخي الخطَّ الرأسيَّ هنا”، مرةً، “والمطر النازل مثلَ خيوط، لا ينسى البحر ولا ينسى المرعى” مرةً أخرى، وثالثة هو “هذا البحر سماءٌ ذائبةٌ في أرض الدحنون، وخيط القطبة يقطبُ جرحَ المعنى”، ورابعة يتحدد هذا المعنى في هذا المحتلُّ الذي “سيسقط في المحو تجرجرُ عتمته المنقوعة بالعارالأعمى”، وخامسة وأخيرة سوف “يعود الضوءُ إلى أرض الضوء، وإن طال كسوف المبنى”.

وهكذا، يكون لنا، كما يقول الشاعر، “في كل مكانٍ معنى”؛ حيث “كلُّ شيءٍ هنا يستردُّ الكلام، ويروي لنا قصةً من كتاب البلاد” 

والقدسُ في القصيدة هي “عاصمةُ المعنى”، وأيضا “لا معنى دون الأقصى”، في إفصاح واضح يختلط فيه السياسي بالديني، والأرضي بتاريخه المتصل بالسماوي.

وهي معانٍ ترافق القارئَ الذي يتقدم في قراءة القصيدة، ويرى في عباراتها المتعادلة تنويعًا أو توزيعا لمولّد بنيوي واحد يواصلُ الإلحاحَ على مخيلة الشاعر في قراءته الاسترجاعية التي يعود فيها بالذاكرة إلى كلّ نغمة أو نأمة يطلقها طائر، أو صورة يرسمها حجر، أو زهرة بقيت رائحتها حاضرة في رأسه من أرض الدحنون المقدسة تلك عبر السنين الطويلة.

  والشاعر يؤثرُ ذكرَ التفاصيل التي تقترن كلُّها بمفهوم عام واحد تزدهر فيه فلسطين في الذاكرة، وتنبعث من جديد فيما يشبه النبوءةَ التي ترافقَ فيها ظهورُ القصيدة على نحو غريب مع أحداث غزة، التي نجحت، رغم ما رافقها من دمار وقتل غير مسبوقين، في وضع القضية الفلسطينية وضعًا جديدًا لا عهد لها به منذ النكبة الأولى عام ١٩٤٨.