خطاب المسئولية فى الثقافة العربية الإسلامية

مدخل:
يبدو خطاب المسئولية خطابًا ملتبسًا وإشكاليًا إلى حد غير قليل، سواء على مستوى مكوناته وتقاطعاته أو اشتباكاته وتداخلاته مع مجالات وخطابات أخرى، أو على مستوى تنوع ممارساته؛ ومن ثم على مستوى تحليله أيضًا. ولعل ذلك يعود لجملة من العوامل المتداخلة والمتشابكة، هى الأخرى، فيما بينها. وذلك ما سوف يحاول هذا المدخل الموجز استكشافه كتوطئة لمقاربة خطابات المسئولية فى الثقافة العربية عامة، وفى الثقافة العربية الإسلامية على وجه الخصوص.
ولعل أول عوامل هذا الالتباس هو ما يوهم به دال “المسئولية” ذاته من أنه دال “شفاف” وواضح بذاته؛ بحكم كثرة شيوعه وتداوله، هذا فى حين أنه ما أن يبدأ الباحث بمقاربة هذا الدال حتى يأخذ هذا الوهم، وهم الوضوح، فى التبدد والتلاشي. ذلك أنه ما من حدود واضحة تقول لنا: أين تبدأ المسئولية وأين تنتهي؟ كما أنه لا يوجد كتاب جامع، أو مرشد تفصيلي يحدِّد بجلاء ووضوح طبيعة وأنواع المسئوليات، بما فى ذلك الشرائع والكتب السماوية أو المجلدات القانونية. وهو ما يعني أنه يوجد دومًا بعد اجتهادي وتقديري وتأويلي فى تحديد وممارسات المسئولية. بعبارة أخرى، إن المسئولية مفهوم غير منجز وغير مكتمل، مفهوم متحول ومتغير من لحظة إلى أخرى، ومن سياق إلى آخر، ومن تأويل إلى سواه … إلخ وفق تفاوت اللحظات والسياقات والأعراف والأديان والقوانين والمؤوّلين، ناهينا عن تعدد المنظورات وتعارض المصالح والغايات، ومواقع القوى التى يمكن أن تُعاين منها المسئولية. ولا شكّ أن كل هذه الأبعاد المختلفة والمتباينة تجعل المفهوم نسبيًا إلى حد مزعج، ولعل هذه النسبية ذاتها هى سر ومفتاح هذا الالتباس.
ثانيًا، على الرغم من ذلك قد يرى البعض أن ثمة تحديدًا لمفهوم “المسئولية” فى أغلب الثقافات واللغات، بما فى ذلك العربية ذاتها، يتمثل فى اقتران مفهوم “المسئولية” بمفهوم “المحاسبة” وهذا صحيح؛ ومن ثم فإن الزعم بأن المسئولية مفهوم ملتبس ورجراج ليس إلا من قبيل الفذلكة النظرية. إلا أن الرد على احتجاج كهذا ليس بالأمر الصعب، إذ يكفي هنا أن تُطرح بعض الأسئلة البسيطة والإنسانية:
- هل تمارس، أو مورست عبر كل المجتمعات والثقافات، المحاسبة، دومًا، بمسئولية؟
- هل المحاسبة أصلاً مادية أو مرادفة للمسئولية؟
- ما هي معايير المحاسبة التى تفي بالمسئولية؟
- هل من المسئولية دومًا أن تكون هناك محاسبة، وإذا كان فأين يمكن أن توضع مفاهيم وممارسات مثل التسامح، أو العفو، أو الصفح، ثم ألا يمكن أن تكون مفاهيم وممارسات من هذا النوع أنجز كثيرًا، في سياقات معينة، من المحاسبة بصورها الاعتيادية، أو أن تصبح حتى دافعًا لصور من المحاسبة الذاتية وسلسلة من ردود الفعل التكفيرية التي لا يمكن للمحاسبة بصورها التقليدية أن تنجزها؟
- ألا تفضي المساواة بين المسئولية والمحاسبة إلى مفهوم آخر، وهو مفهوم العدالة، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يمكن لمفهوم العدالة أن يفي بمفهوم المسئولية، وإذا كان الجواب هو النفي، فما هى الحدود والفروق بين المسئولية والعدالة؟
- ألا تعني المساواة بين المسئولية والمحاسبة الخلط بين فعالية ما وإحدى ضوابط أو ضمانات ممارستها؟
إن كل هذه أسئلة، وهناك أسئلة أخرى عديدة سواها، يمكن الرد بها على احتجاج من قبيل الاحتجاج الافتراضي الذى أشرنا إليه.