رزانة السحاب ونزق الفراشة: قراءة في تجربة أحمد بلبداوي

منذ أن أُلقي يوسفُ في الجب ظنا ورجما بالغيب، إلى أن انصرف صابر الخطاط بعد أن جرَّ اسمه من صاده ضاحكا، والشاعر ينسج ملحمته بصبر وأناة دون أن يكترث لترويج المروجين أو تجاهل المتجاهلين، متشبثا طوال الجيل بالشعر والخط وحلاوة الروح ونقاء السريرة. الملحمة، كما يعرفها باوند، قصيدة تتضمن التاريخ. ويمكن القول إن ملحمة الشاعر تتضمن التاريخ بأوسع المعاني: الأسطورةَ والدينَ واللغة والإنسان الذي خُلق في أحسن تقويم ثم قُذف به إلى أسفل سافلين.
ونجد النفَس الشعري طوال هذه الملحمة شاعرا وصابرا، أي شاعرا وخطاطا، يحنو على الكاف ويلاطف النون وينوع صاد مصادره ويضاجع المجهول وينفخ في الأشياء من حلاوة روحه. الاسم مشتق من الصبر والصبر يفتح الفرج، لكن يعقوب الكظيم تبيض منه العينان، والنوم قد شب في الألواح والمجداف، والسفينة تمخر عباب المجهول وتلقي باسم الله مُرساها. فهل كانت الرحلة وهما؟ أغلب الظن أن الأمر كذلك؛ فلا المجد بلل الأنحاء ولا الصبر أنطق الأحجار: ’’فما للماء ـ يا الله ـ تحتي عاد/ سرابا وهذه الحيتان أحجارا؟‘‘
ولعل التوقف عند مداخل أنطاكية يؤكد أن التاريخ ما يزال يعيد نفسه. فالعود التاريخي يجعل قدماء الفرس وقدماء الروم يعسكرون في شط السينية، وسينية البحتري ـ بفرسها، ودِرفسها، وورسها، وترسها، وإغماض الجرس، وإشارة الخرس فيها ـ مطلع منه نتطلع إلى المداخل، والدم الذي رسم هندسة الزمن في أنطاكية ولبنان ما يزال يرسمها في بغداد وغزة، والمحبوبة مازالت دامية الرؤيا، والشاعر الصابر ما يزال يأمل أن يبني عاصمة في البْروج ويرتل بالخط بيانا عن تل الزعتر. ولا شك أن فدوى، التي كان اسمها يُكتَب على معصم مئذنة فتهوي المئذنة، هي الآن عاشقة في شكل الرمانة تزقزق حولها أسراب الزعتر: ولا تزال الأرض في حاجة إلى العشق كي تكمل دورتها، لا تزال في حاجة إلى العشق الحق الذي يُميت، العشق الذي يرى في ’’حافظ‘‘
في ’’حافظ‘‘ ’’حامضا‘‘. فهل يُقام القداس، قداس المصلوبين، على قارعة اليتم؟
أوْلى بهذا القداس أن يُقام مادام أبو النصر يحمل ’’في الداخل وطنا كالمبغى تتضاجع في داخله كل علامات المنع.‘‘ فسبحان هذا البلد الأمين! هذا البلد الذي اكتملت فيه الدائرة الحمراء، تفض بكارتها عارضة بيضاء! هاهو الوطن قد أمسى ’’مقودة يتقاسمها لوطي، وتحريفي، وتخريفي، وجنرال شبق‘‘؛ وهاهم شهداء الوطن قد جاءوا من عاصمة الويلات المتحدة بجوازات دائمة غير مزورة. أما الشهيدة التي تنبهت فسعدت فقُتلت ـ تلك الشامخة التي لمحتها يوما تهبط درج محطة الرباط المدينة فتذكرت للتو Maude Gonne ـ فمرثيتها حكاية موت مؤنث، وقد كان حقا موتا ’’في عنفوان الصنوبر… مجيئا يشن علينا الماء ويحرض ما فينا من زعتر.‘‘ فهل يدرك الصنوبر وتدرك الدالية والنحلة والسنبلة أن الخضرة والطير تسافر إليها من لغة الشاعر وهو يَقطع المسافة بين وطنه الحتمي ووطنه البدهي؟ إن الأقمار الناضجةَ الغبطة لتدخل الآن في النهر القاسي علها تجد من يغزل من دمه شعر السنديان. وإن الموت ليأتي مدججا بالسنونو والزعتر.’’حامضا‘‘. فهل يُقام القداس، قداس المصلوبين، على قارعة اليتم؟
