
تقدم (الكلمة) هنا دراسة نقدية للرواية التي نشرتها العدد الماضي، وهي دراسة يكتبها ناقد من جيل الكاتب، عاش تجربة مماثلة لتجربة الخراب والعذاب التي ترقش الرواية تفاصيلها في النص الروائي العربي، ولذلك استطاع أن يميط اللثام عن الكثير ما تتميز به هذه الرواية على صعيد التجربة وعلى صعيد الكتابة الروائية معا.
رواية «الإرسي» لسلام إبراهيم
نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العراق
«لا تنتابني كوابيس بخصوص هذه الأمور، ولكني أتذكر، وأتذكر، وتعاودني صورة ذلك الرأس المقطوع من جسد لاجئ ألباني في كوسوفو، إثر غارة جوية أميركية حدثت قبل أربع سنوات، كان رأسا ملتحيا واقفا وسط حقل أخضر، تحت نور الشمس الساطع، وكأنه قُطع على يد سيّاف من القرون الوسطى. وكذلك جثة ذلك الفلّاح الكوسوفي المقتول على يد الصرب، والذي فُتح قبره بواسطة الأمم المتحدة، فبرز أمامنا من الظلمات منتفخا، وذلك الجندي العراقي في منطقة “الفاو” خلال الحرب الإيرانية – العراقية، كان يلمع على إصبعه الثالث من يده اليسرى خاتم زواج ذهبي يتيم، يتوهج بالنور والحبّ لامرأة لا تعرف أنها أمست أرملة»
(روبرت فيسك) كتاب (الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة – الإبادة – ص 19)
رفوف كتب
«إنه الجندي “عبد فرج”، الذي لملمت أشلاء جسده الممزقة المقطعة، الملوثة بتراب سهوب شرق البصرة والدماء، ووضعتها جوار بقاياه الملفوفة في بطانية نقعت بصبيب دمه المتدفق، رغم اندماله بجدار الأبدية. جمّعتها باضطراب واضعا كل قطعة بمكانها، وكأنني أريد وصلها من جديد، الكف الصغيرة، الساعدين، وقدم واحدة فقط. ظللت أدور في أنحاء موقع البطرية بحثا عن القدم الضائعة دون جدوى. ترن ضحكته في رأسي. فبالأمس عدنا من الإجازة إلى الجبهة بسيارة تموين الكتيبة القادمة من البصرة. كان يحدثني مرحا عن قدر الإنسان ضاربا مثلا في نفسه. لم نعثر على القدم الأخرى إلا في اليوم التالي، فدفناها خلف الساتر الترابي وسط نحيب الجنود.»
سلام إبراهيم رواية (الإرسي)
في فضل الحرب على الإبداع:
من الغريب أن نجد دعوات تطلق من قبل بعض الكتاب تدعو إلى حرق أدب الحرب في الأدب العراقي، ولا تكتفي بالتساؤل عن جدواه. وما أقصده هنا هو أدب الحرب الحقيقي، لا التعبوي الهتافي المباشر. وهؤلاء دعاة الحرق يقعون في خطأ جسيم، فهم لا يدركون دور الحروب في تثوير الإبداع عموما، وفي إنضاج المدارس الفنية خصوصا. طبعا نحن لا نقصد تبرير الحرب تحت هذا الغطاء فهذه سذاجة فادحة. لقد ظهرت أغلب المدارس الفنية بعد الحروب. فعلى سبيل المثال ظهرت الرمزية بعد حرب 1870، والدادائية والسوريالية بعد الحرب العالمية الأولى .. والوجودية بعد الحرب الثانية. إن الحرب لا تهز القيم والثوابت وتمزق نسيجها حسب، بل تمنح المبدع فرصة تاريخية لمعاينة خراب النفس البشرية ونضجها على حدّ سواء وهي تقف أمام المشكل/ الموت وجها لوجه. في الحرب تشعر النفس البشرية بالموت كإشكالية وجودية كبرى، وحالما يشعر الإنسان بالموت كإشكالية وجودية، فإن هذا يعني أن شخصيته نضجت حسب تحليل عبد الرحمن بدوي. وهذا الشعور يرافقه في أغلب الأحوال ميلاد حضارة جديدة وهذا ما فصّله “إشبنغلر” أيضا. ومن ناحية أخرى مكملة، فإن الفضل على الأدب هو للموت وليس للحياة. إن الأدب الكبير هو أدب الخراب والعذابات. يتجسد هذا في روائع الإبداع العالمي مثل: ملحمة جلجامش وأوديب الملك وهاملت والأخوة كارامازوف ومدام بوفاري والأحمر والأسود .. وغيرها.
