مرتضى الجصاني
عباس البغدادي / حداثة الأسلوب
(لا أسمح للشكل بأن يذل حرفي )
عبارة كبيرة وردت على لسان الراحل البغدادي في معرض الحديث عن المعادلة الصعبة في التمكن من خلق شكل تركيب جميل ومختلف ومتوازن وبنفس الوقت الحفاظ على شكل وهيكلية وقواعد الحرف، وهنا عند مراجعة كتابات ولوحات ومسودات الأقدمين ورواد الخط العربي، نلاحظ تبايناً في هذه التفصيلة المهمة، وهي الربط والموازنة بين شكل التركيب وقوة الحرف وقواعده، فتارة يأتي الشكل على حساب الحرف ويأخذ من قوته وقواعده فتصغر الحروف نسبياً، أو تمد أو تقطع أو تربط ربطاً غير منطقيٍ، وتارة أخرى يأتي الحرف على حساب الشكل فيتخذ أشكالاً غير قوية أو تعاني من خلل بنائي أو ترتيبي، وهذا ليس منقصة أو سبة في الخط العربي، بل على العكس هناك أعمال لقدامى الخطاطين وعمالقة الحرف جاء فيها هذا الخلل، وتعاني من الهفوات والفلتات البسيطة، وبعض هذه الأعمال أصبحت تحفة فنية، القصد أن هذا لا ينقص من العمل الخطي، لكنه بنفس الوقت، الوصول إلى درجة الكمال في اللوحة الخطية، هذا ما كان ينشده عباس البغدادي بلوغ درجة الكمال الفني في اللوحة، وهو ما اجتهد فيه البغدادي وعمل عليه طيلة سنوات حبه وشغفه في الحرف، حتى صارت لوحته وأعماله المثل الذي يحتذى به ويدرس فنياً من حيث قوة التركيب وقوة الحرف، وقوة التركيب هذه تشمل الكثير من التفاصيل مثل الفراغات والترتيب القرائي والمسافات بين الحروف والمساحات بين الأبيض والأسود وتباين الكتلة حيث نشاهد أعمال البغدادي متضمنة كل هذه التفاصيل الصغيرة التي لا يتمكن منها إلا الراسخون في العلم، ومن هنا لا يسمح البغدادي أن يُذل حرفه في سبيل التركيب، أو أن يتقدم الشكل على حساب الحرف، وهذا ليس تزمتاً، بل هو تحدٍّ ذاتيٍّ يسمو به كخطاط متصوف مع الحرف وفي حالة صراع مستمر مع قدراته والتغلب عليها، وهذا لا يشمل أعمال البغدادي الفنية فقط، بل حتى الأعمال التجارية حيث يلتزم البغدادي بأدق التفاصيل المتعلقة بجماليات الحرف ويذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يهتم في تحريك الحرف مقياس نقطة، أو نصف النقطة، وغيرها من صغائر التفاصيل التي يراها هو، والتي قد لا تشكل أهمية عند غيره من الخطاطين، فجملته أعلاه لم تصدر منه اعتباطاً، بل صدرت عن حنكة وخبرة طويلة في البحث المستمر عن الجماليات داخل الحرف، وأن يكتب الحرف كما يجب، بل ويتفوق على الأقدمين في الحفاظ على سلامة الحرف قواعدياً وجمالياً.
_تطور الأسلوب الخطي عند عباس البغدادي
إن التطور الفني عند الفنان بصورة عامة، يأخذ أشكالاً ومراحل زمنية مختلفة تخضع هذه المراحل للتجريب وللمزاج الفني للفنان ومدى تأملاته وتطلعاته للابتكار، وما يجد نفسه فيه، وهذا ما نلاحظه في رموز ورواد الفن العالمي، مثل بيكاسو ومروره بمراحل مختلفة، من المرحلة الوردية، والمرحلة الزرقاء، إلى التكعيبية والتعمق فيها ومنحها روحاً تحمل أنفاس بيكاسو نفسه، هكذا هو الفن والخط العربي ليس استثناء من الفنون مع حفاظه على ثوابته وقواعده وتطويرها بالشكل الفردي الذي يحمل أسلوباً خاصاً قائماً على رؤى وفلسفة الخطاط ذاته في فهم وتفاصيل الحرف وتشريحه والتطوير البصري للحرف، ومن هنا نجد أن الفنان الخطاط عباس البغدادي، مر بهذه المراحل كأي فنان يحمل في داخله معنى كبيراً للفن والحرف، وليس ماكينة طباعة تقلد الحروف كما هي، لقد أدرك البغدادي منذ البداية أنه يجب أن يترجم شعوره تجاه الحرف الى إحساس بين العقل والروح واليد، فالعقل يتأمل حروف الأقدمين وتراثهم ويفكك ألغاز تراكيبهم وزوايا أقلامهم، ويستغرق كثيراً في تأمل حروف الشيخ عبد العزيز الرفاعي مثلاً وتشريحها بالعين والعقل قبل اليد، ثم يتماهى هذا كله في الروح وثناياها متحولاً إلى صور جمالية مخزونة في اللاوعي يستحضرها حين يكتب بيده، ومن ثم يضيف عليها روحه ولمسته، كان هذا هو المبدأ الذي عمل عليه البغدادي طيلة خمسين عاماً من العمل في مجال الخط العربي، لكنه بدأ مكتشفاً باحثاً عن حرف يرضي ذاته ويجد نفسه فيه، لذلك نراه يبتكر توقيعاً مميزاً بالنسبة إلى اسمه الذي صار أيقونة جمالية خطاً وتركيباً وكتابة، فهذه نفحة من نفحات جماليات البغدادي، وكذلك من يتابع مخطوطات البغدادي من أعمال فنية وأسماء شخصيات عامة وغيرها، في الفترة من العام ١٩٧٩ إلى بداية التسعينات، سيجد أن أسلوب كتابة البغدادي قد اختلف وتطور في الثلث والنسخ، حيث اهتم بالثلث في الحرف وهيكلية الحرف وقوة الحرف على قدر المستطاع، كذلك تطور مستوى خط النسخ لديه بشكل لافت، وأصبح يهتم في بداية التسعينات برسم الحرف واتصالاته والتعمق في إظهار جمالية حروف النسخ، لكن تأتي منتصف التسعينات، طفرة نوعية في خطوط وأعمال البغدادي على مستوى عمل اللوحة وليس قوة الحرف فقط، وعمل اللوحة هو فن بحد ذاته لا يكفي فيه قوة الحرف، بل يحتاج إلى عقل فني مبتكر لتراكيب جديدة غير مطروقة سابقاً وخارجة عن الدائرة والمستطيل والشكل البيضوي، وهي الأشكال السائدة في تراكيب الخط العربي فيتخذ نصوصاً جديدة وأشكالاً مختلفة مع اشتغاله على الأشكال التراثية، ولكن بنصوص جديدة، لكنه يبتكر في كل لوحة، حركةً تزيد اللوحة جمالاً ودهشة، فتارة يخرج الكاف من قلب التركيب كأنها تخترق القيود وتحلق في فضاء روحاني خاص، وتارة يعمل على التراكيب الحرة المتماسكة والتي تشعر المتلقي كأنها كتلة واحدة قوية، ولا تقتصر ابتكارات واشتغالات البغدادي على هذا فحسب، بل يصل حتى التشكيلات أو حركات التزيين التي من رؤية البغدادي تختلف تماماً عن شكلها المعتاد حيث اتخذت أشكالاً رشيقة، وبنفس الوقت أكثر سماكة من التشكيلات التي نراها في أعمال بقية الخطاطين، وهذا منحها قوة وحجماً مناسباً لتغطية الفراغات في اللوحات الكلاسيكية. فضلاً عن ذلك، ازداد اهتمامه بهيبة الحرف وكتلة اللوحة واشتغل كثيراً على هذه التفاصيل حتى أصبحت لوحته تحمل لمسة وبصمة وروح البغدادي، حتى لو لم يضع توقيعه عليها.
التشكيل والتزيين في أعمال عباس البغدادي




من المعتاد عند جمهور الخطاطين، أن تكون حركات التشكيل والتزيين هي مكمل من مكملات اللوحة الخطية، وهنا نتكلم عن لوحات الثلث الجلي بصورة خاصة، لأنها عمدة الأعمال وعليها يمكن قياس مهارة وتمكن الخطاط أو على الأقل “هذا ما وجدنا عليه السلف” وهذه الأشكال الفنية المتفرقة من تشكيلات وحركات الغاية منها زينة الخط، وأيضاً لها وظائف مهمة في ملء الفراغات في لوحات الثلث الجلي، ووفق التوظيف الأخير نجد أن الكثير من الخطاطين أساء استخدام هذه الميزة الفنية الخاضعة للذوق الفني بشكل أساسي، فنجد اللوحة مليئة بالفراغات ويتم تغطيتها بكم هائل من حركات التزيين، وبالتالي يكون الخلل واضحاً في بناء وتركيب العمل الفني، ولأن البغدادي يملك ذائقة فنية عالية جداً تحسس ذلك الخلل في الأعمال الخطية السائدة في وقته وعالج هذا الخلل الفني بذوق فني قل نظيره، وبحرفية وتمكن مدهش، وكما هو معروف بأن تكون حركات التشكيل بقلم قياسه ثلث قلم الكتابة، لكن البغدادي رأى ذلك لا يحقق ما يبتغيه من تماسك الكتلة في اللوحة، لذلك زاد من قياس قلم التشكيل بشكل قليل ومدروس مما شكل تغييراً مذهلاً على مستوى تماسك الكتلة في اللوحة وليس ذلك فحسب بل حتى تشكيلاته وحركات التزيين يكتبها برشاقة فنية وروح خاصة به جداً، مستوحاة من دراسة التراث الخطي وإضافة اللمسة الساحرة التي يمتلكها وبالتالي حركات التشكيل تكون موظفة بشكل مدروس فنياً وليس عشوائياً أو اعتباطياً فيتأمل كثيراً في وضع “الوردة ” أو “الورقة” أو “الميزان” وهكذا.
الإخراج الفني للوحة عند البغدادي
لم يكن الإخراج الفني للوحة الخطية محط اهتمام عند الخطاطين العراقيين من تلامذة المرحوم هاشم البغدادي، بحيث لم يرتق المستوى الإخراجي للوحة إلى أعمال هاشم الخطاط، وربما كان المرحوم هاشم البغدادي يمتلك مؤهلات لا يمتلكها من أتى من بعده من حس فني وذوق في إخراج اللوحة الخطية، على الرغم من نقل القالب بالطريقة القديمة، وبالتأكيد الإخراج الفني للوحة في تلك الفترة يتطلب أدوات جيدة يعرفها أغلب الخطاطين، والمتابع لأعمال الخطاطين بعد هاشم البغدادي، يلاحظ بشكل جلي أن مستوى اللوحة الفني انخفض كثيراً وشكلت الفترة بين وفاة هاشم الخطاط وبين نضوج تجربة المرحوم عباس البغدادي، فترة فراغ وركود مع وجود بعض التجارب الفنية الخطية القليلة التي تمثل إضاءات أو ومضات، ما يهمنا هو تجربة الخطاط عباس البغدادي في إخراج لوحة خطية تملك جميع القيم التي نحاول دائماً دراستها، فنجد البغدادي يلاحق أدق التفاصيل في اللوحة فهو يختار نوع الورق بعناية فائقة، بعد أن يجري اختباراته للورق ومادته ومدى تحمل الورق للمسح والحك أو التنميق، كما يختار بدقة وعناية أكبر الحبر الذي يكتب به ومدى سلاسته وسحباته ولونه الذي يفضله بدون لمعة، وقوة سواد المداد، أما القلم أو القصبة التي يختارها للكتابة فهي حقاً قصبة محظوظة، وذلك لأنه يعاملها كإنسان له روح تتماهى مع روح الخطاط، بعد أن يختار أدواته يعمل على إنتاج لوحته والتي تجعلك متحيراً ومندهشاً من نظافة الحرف وجماله وضبط المسافات بين الحروف وقوة التصميم وكمية السواد والبياض على سطح الورقة، وأغلب الظن أن البغدادي أول من استخدم المنضدة الضوئية في شكلها الحالي حيث كان هناك شكلٌ مستوٍ للطاولة المضيئة قبل البغدادي، لكن بشكلها المائل بزاوية مدروسة ومصممة لهذا الغرض، كان البغدادي رائداً في ابتكار أدوات تسهل عمله، كما ذكر ذلك المزخرف علي اللامي الذي لازم البغدادي سنوات طويلة في مكتبه، حيث كان مشاركاً في تجهيز الكثير من الأعمال الفنية والتجارية مع أستاذه البغدادي، وهذه الابتكارات أحدثت نقلة نوعية في دقة تصاميم التراكيب الخطية وتماسك الكتلة التي امتازت بها أعمال البغدادي بعد عام ١٩٩٥.
التوقيع عند البغدادي تجديد آخر
لا يخفى على أهل الخط والمحبين لهذا الفن الأصيل أن توقيعات الخطاطين هي قطعة فنية مكملة للوحة الأصلية، وحتى لا ندخل في سرد تاريخي لتاريخ التوقيع في اللوحة الخطية، نقول إن الخطاطين العثمانيين أبدعوا غاية الإبداع في رسم شكل التوقيع ونحته ومنه نشأت تأويلات ورمزيات في وصف أشكال التوقيع، إذ ذهب بعضهم إلى أنها-أي التوقيعات- تكتب على شكل بصمة إبهام الخطاط، وذهب بعضهم الآخر إلى أن التوقيع هو جزء من شخصية الخطاط نفسه وروحانيته، بينما يذهب قسم من أهل الخط إلى أن التوقيع هو شكل فني مجرد قائم على الشكل الفني وتناسب الكتلة والتوازن بين السواد والبياض، أي بين الكتلة والفراغ، وبكل الأحوال لا أجد اختلافاً كبيراً بين هذه الآراء، لأنها بالنتيجة وصف فني يحتمل التأويل والتجريد، وهذا من مزايا تطور الخط على يد الخطاطين العثمانيين الكبار، فقد نقلوا الخط العربي من الجملة والسطر، إلى الشكل الفني المعقد المتداخل الذي يوجب على المتلقي أن يسرح في تأملات واحتمالات كثيرة كي يصل إلى النص المراد، والتوقيع شأنه شأن اللوحة الخطية تطور في الشكل والتصميم حتى وصل إلى أشكال متطورة ومتكاملة جمالياً وفنياً، ومن هذا التراث الفني العريق والأصيل والممتد إلى مئات السنين يظهر لنا في النصف الثاني من القرن العشرين خطاطٌ بارعٌ هو امتداد لمدرسة بغداد الخطية العريقة وتراث لكبار الخطاطين العثمانيين، إنه عباس البغدادي أو (عباس بغدادي) كما يحلو له أن يسمي نفسه. والبغدادي لا يمكن الحديث عن جمالياته المتعددة في هذه السطور القليلة لأنه مصدر جمالي رصين وكبير ولكن يمكن أن نرتشف من عذب جماله الثر ونتكلم عن لمحة بسيطة من إبداعاته اللامتناهية، توقيع البغدادي، هذا التوقيع الذي يعدُّ تحفة فنية متكاملة يحمل قيم الجمال التي نبحث عنها ويحمل المعنى والمضمون والشكل والتوازن والكتلة والفراغ، وهنا نتساءل أي مستوى فني وصل إليه هذا الرجل كي ينتج هذه التحفة أقصد –التوقيع- حتى صار توقيعه مدرسة يسير على خطاه الخطاطون، ويقتفي أثره المبدعون وكتابة توقيعاتهم، وإنتاج أشكال جديدة بالروح نفسها ألا وهي روح البغدادي المبدع، وإذا ما تكلمنا عن جماليات توقيع البغدادي من ناحية فنية خالصة نلاحظ أنه اختار كلمة (بغدادي) ولم يختر اسمه، وهذه التفاتة ذكية ورائعة في توثيق اسم بغداد ومدرستها الخطية وانتسابه إليها، من ناحية أخرى نلاحظ كتلة الاسم واستلهامه أشكال التوقيعات العثمانية القديمة، مع وضع لمساته الخاصة المميزة في تكوين شكل التوقيع وتفاصيله، حيث اتصال الدال مع الياء في واحدة من تجليات البغدادي الرائعة، كذلك التفاف الجناح من الياء إلى اتصاله بالألف ومن ثم يذيلها بصورة مدهشة بانحناء مدروس بشكل هندسي دقيق ومثير، توقيع البغدادي هو بصمته الباقية وهو أثر الأقدمين بحق، وهو مبتكر لهذا الشكل الفني المختلف عن الجميع والمستلهم للإرث الفني كله.
