اليوم العالمي للغة العربية

علم المنطق في دراسة النحو العربي

الأستاذ المتمرس الدكتور محمد كاظم البكاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

المقدّمة :
اعتمد سيبويه على الأسس الآتية :
الأوّل – نظرية العمل النحوي ، وتلخص هذه النظرية بالمعادلة الآتية :
عامل + معمول = حالة إعرابية ( علامة)
إنّ + اللهَ = النصب ( الفتحة)
+ خالقٌ = الرفع ( الضمة )
وفي ضوء هذه النظرية كانت الأبواب عند سيبويه :
أوّلا-– أبواب إسناد الفعل: وقد عالج فيه سيبويه جميع الأفعال ، وما يعمل عملها ، وأسماء فعل الأمر والنهي .
ثانيا – إبواب إسناد الاسم وما أجري مجراه ( المركب الإضافي ، التوابع)
ثالثا – أبواب الإسناد الذي بمنزلة الفعل ( الحروف الخمسة، الاستثناء ، النداء وغيرها)
رابعا – أحكام الإسناد مع بدائل الاسم المظهر ( الممنوع من الصرف ، والمصدر المؤوّل ، وأبواب الحكاية )

الثاني – نظرية الحس الصوتي :
واللغة ملكة اختصّ الله تعالى بها الإنسانَ للتعبير عن الفكر ، وإنما نحن نفكّر بلغة غير مسموعة ؛ قال فندرس ” نحن نفكّر بجمل” ؛ نصّ على ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى” وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 31]” ” فهو على تقدير حذف المضاف ” وَعَلَّمَ آدَمَ ملكة تسمية الأَسْمَاء كُلَّهَا” وليست الأسماء مفرداتٍ لا يمكن حصرُها ، وعندما علّم الله سبحانه وتعالى آدمَ هذه الملكةَ عرّفه ببعض أسماء الذوات التي لانعلمها ، ثم عرضهم ، أي : الذوات بأسمائهم على الملائكة ؛ فعجزوا عن معرفتها ؛ فسجدوا لهم أجمعين لمنزلته العلمية .
وضابط هذه الملكة عند العربي حسٌّ صوتيٌّ يتطلب الخفّة باللسان ، وحُسْنَ التلقي بالآذان ، وهي ملكةٌ توارثها الأبناء عن الأجداد سليقةً ، وحفظها القرآن الكريم بياناً ومعرفةً .
إنّ سيبويه عالج في ضوء هذه الملكة الأحكام النحوية ، ومنها : نظرية تمام الكلام ( عشرون درهما) ، وفي ضوئها كانت القواعد النحوية:
1- نصب ما اكتمل بالنون وما اجري مجراها : أقبل عشرون طالباّ ، وهذا كاتبٌ قصةً ( التنوين) ، واحترامي المعلمَ واجبٌ ( المضاف والمضاف إليه)

2- نصب ما اكتمل بالأسناد : كتب زيدٌ رسالةً ، رسالةً : مفعول به منصوب بعد جملة الإسناد : كتب زيدٌ
ومثله : أقبل المتسابقُ مسرعاً ، مسرعا : حال منصوب بعد جملة الإسناد أقبل المتسابقُ.

3- النصب بعد طول الكلام : يا رجلُ ،منادي مرفوع ؛ لأنّ الكلام غيرطويل ، يارجلَ المرورِ ، مناد منصوب
يارجلاً : منادى منصوب ؛ لأنّه مركب وتقديره : يارجلا أيّ رجلٍ.
القاعدة : المنادى إذا كان مفردا غير مركب ( يبنى على ما يرفع به)، وإذا كان مركبا نصب .

4- بناء فعل الأمر على الجزم ( حذف الآخر) ؛ وذلك لأن المتكلّم في الأمر والنهي يتعجّل الكلام ؛ فعمد إلى حذف الآخر للتعجل في التنفيذ :

كتبَ يكتبُ اكتبْ حذفت الحركة
دعا يدعو ادعُ حذف حرف العلة

5- أسماء الأفعال : أسماء الأ فعال عند سيبويه هي التي تتعلق بالأمر والنهي فقط ؛ فليس ثمة أفعال للمضارع ولا أسماء أفعال للماضي ؛ وإنما صاغ العربي أسماء أفعال الأمر والنهي للتعجّل في التنفيذ : اسْكُتْ (أسْ) .
أماّ أسماء الأفعال للأفعال الماضية والمضارعة التي أضافها النحويون خطأ فهي ( أصوات).

6- الحذف للخفّة نحو قولهم : لم يدرسوا ، وكذلك : لن يدرسوا ، عنداطالت المقاطع الصوتية من الأمام حذف من نهاية الكلمة .

وكان سيبويه في كلّ ذلك يجري على وفق القواعد المنطقية ؛ والمنطق ” علم تعصم مراعاته الذهن عن الخطأ في الفكر ” ، وسنتدبّر تطبيقات ذلك في بعض الأبواب والقواعد النحوية حتى صار مرجعا لعلم الفقه ؛ يقول أبو عمر الجرمي (ت 225 هـ) أحد شراح كتاب سيبويه، وهو عالـم جليل متمكّن من علم اللغة والنحو: أنا أفتـي الناس منذ ثلاثين سنةً من كتاب سيبويه”، فأُخبـر المبرد بذلك، فقال: أنا سـمعته يقول هذا”.

(ينظر: مجالس ثعلب، تحقيق: عبدالسلام هارون، دار المعارف، القاهرة، ص191)

ويطالعنا قبل سيبويه الإمام علي بن أبي طالب (ع) باعتماده علم المنطق في وضع الباب الأوّل من النحو ، فهو عليه السلام يرى أنّ الكلم في العربية إمّا له معنى وإمّا ليس له معنى ؛ فإن لم يكن له معنى فهو (حرف) ، وإن لم يكن له معنى ، فإن كان له زمن معيّن فهو (فعل) ، وإن لم يكن له زمن معيّن فهو (اسم) ، وذلك الذي جرى عليه الإمام علي بن أبي طالب(ع) كان على وفق القاعدة المنطقية (قاعدة مانعة الخلو) ،وهي :
” الحقيقية، ومانعة الجمع، ومانعة الخلو:
وهذا التقسيم باعتبار إمكان اجتماع الطرفين ورفعهما وعدم إمكان ذلك، فتنقسم إلى:
حقيقية: وهي ما حكم فيها بتنافي طرفيها صدقا وكذبا في الإيجاب وعدم تنافيهما كذلك في السلب، بمعنى: أنّه لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما في الإيجاب ويجتمعان ويرتفعان في السلب.

مثال الإيجاب: ” العدد الصحيح إما أن يكون زوجا أو فردا ” فالزوج والفرد لا يجتمعان ولا يرتفعان.
مثال السلب: ” ليس الحيوان إما أن يكون ناطقا وإما أن يكون قابلا للتعليم ” فالناطق والقابل للتعليم يجتمعان في الإنسان ويرتفعان في غيره.( الشيخ محمد رضا المظفر ، المنطق – الصفحة ١٨٥)

بدأ النحو أبوابا منذ القرن الأوّل الهجري زمن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، وقد نسب هذا العلم إلى قوله ” فانحوا هذا النحو”؛ وتلك حجّة قاطعة على أنّ النحو من وضع الإمام علي بن أبي طالب (ع) تحديدا ، وإن نسب لأبي الأسود الدؤلي فهو قاضيه ؛ ومن المتوقع أن يرجع إلى الإمام علي بن أبي طالب ، ويروى أنّه ذكر للإمام الحروف التي تنصب الأسماء ( إنّ وأخواتها) ، فقال له الإمام :أضفْ إليها (لكنّ) ، ثم تكاثرت الأبواب ، حتى زمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (-175هـ) ، فعهد بها إلى تلميذه سيبويه (-185 هـ) وهو تلميذه والزائر الذي لايُمَل ، وقد اتخذ سيبويه منهجا اعتمد فيه على الأسس التي ذكرناها مع مراعاة علم المنطق .

أمّا الأسس المنطقية التي راعى فيها سيبويه علم المنطق ( التعريف) ، قال سيبويه (1/ 53) ” فالاسم : رجلٌ، وفرسٌ ، حائط” ، وهذا في المنطق نوع من التعريف يعرف بـ(التعريف بالمثال) ؛ و”التعريف بالمثال ، والطريقة الاستقرائية كثيرا ما نجد العلماء – لا سيما علماء الأدب – يستعينون على تعريف الشيء بذكر أحد أفراده ومصاديقه مثالا ، وهذا ما نسميه (التعريف بالمثال) وهو أقرب إلى عقول المبتدئين في فهم الأشياء وتمييزها،

والتعريف بالمثال ليس قسما خامسا للتعريف ، بل هو من التعريف بالخاصة، لأنّ المثال مما يختص بذلك المفهوم، فيرجع إلى الرسم” (الشيخ محمد رضا المظفر، المنطق ، الصفحة ١٢١).
وفي مباحث (التعريف) التزم سيبويه بكون التعريف جامعا مانعا على وفق قواعد المنطق؛ قال سيبويه (1/ 54) ” وأمّا ما جاء لمعنى ، وليس باسم ، ولا فعل فنحو : ثُمّ ، وسوف ، وواو القسم ، ونحوهما ” ؛ فقوله (ما جاء لمعنى) يعني له معنى بالضميمة ؛ وقوله ( وليس باسم ولا فعل) أخرج الاسم والفعل ؛ فهما لهما معان بأنفسهما وليس بالضميمة ؛ أي : إنّ له (معنى) جمع الحروف والاسماء والأفعال ، وقوله ( وليس باسم ولا فعل ) أخرج الاسم والفعل .
ومن ذلك تعريفه للمسند والمسند إليه (1/67) :
“هذا بابُ المسندِ والمسندِ إليه : وهما ما لا يستغني واحدٌ منهما عنِ الآخرِ، ولا يجدُ المتكلِّمُ منهُ بُدّاً . فمن ذلكَ :
1- الاسمُ المبتدأُ والمبنى عليه وهو قولك : عبدُ اللهِ أخوكَ ، وهذا أخوكَ.
2- ومثلُ ذلك : يذهبُ عبدُ اللهِ، فلابدَّ للفعلِ منَ الاسمِ كما لم يكنْ للاسمِ الأوّلِ بدُّ منَ الآخرِ في الابتداءِ .”
وهذا التعريف للمسند والمسند إليه من حيث التركيب ، وعرّفه ابن مالك ” كلامنا لفظ مفيدٌ كاستقمْ” من حيث الفائدة ، وعرّفه أستاذنا مهدي المخزومي ” الصورة اللفظية للفكرة” بلحاظ ثنائية اللفظ والمعنى ؛ وهكذا يتّضح أنّ التعاريف مختلفة باختلاف الواضع ولحاظه ؛ وفي منطق المظفر (123- 126):
” شروط التعريف : الغرض من التعريف – على ما قدمنا – تفهيم مفهوم المعرَّف – بالفتح – وتمييزه عما عداه، ولا يحصل هذا الغرض إلا بشروط خمسة:
الأوّل: أن يكون المعرِّف – بالكسر – مساويا للمعرَّف – بالفتح – في الصدق، أي يجب أن يكون المعرِّف – بالكسر – مانعا جامعا. وإن شئت قلت: مطرّدا منعكسا.
ومعنى ” مانع ” أو ” مطرد ” أنه لا يشمل إلا أفراد المعرَّف – بالفتح – فيمنع من دخول أفراد غيره فيه. ومعنى ” جامع ” أو ” منعكس ” أنّه يشمل جميع أفراد المعرف – بالفتح – لا يشذ منها فرد واحد.
الثاني -: أن يكون المعرِّف – بالكسر – أجلى مفهوما وأعرف عند المخاطب من المعرَّف – بالفتح – وإلا فلا يتم الغرض من شرح مفهومه.
الثالث: ألا يكون المعرِّف بالكسر – عين المعرَّف بالفتح – في المفهوم، كتعريف الحركة بالانتقال والإنسان بالبشر تعريفا حقيقيا غير لفظي، بل يجب تغايرهما إما بالإجمال والتفصيل كما في الحد التام، أو بالمفهوم كما في التعريف بغيره.
الرابع: أن يكون خاليا من الدور ، وصورة الدور في التعريف” ومعنى الدور توقف الشيء على نفسه.
الخامس: أن تكون الألفاظ المستعملة في التعريف ناصعة واضحة.”
وتعريف سيبويه (المسند والمسند إلبه) داخلته ( القسمة) ، وللقسمة شروطها في (علم المنطق) يطول بها المقام ، ويعنينا منها ما يعرف بـ(جهة التقسيم) ، وفي تعريف المسند والمسند إليه قسّم سيبويه الإسناد إلى إسناد الاسم وإسناد الفعل ؛ وجهة التقسيم هي أنواع الكلمة ، وكذلك اختلفت تعاريف الإسناد بلحاظ الواضع من حيث (جهة التعريف) من حيث التركيب والفائدة وغيرهما .
وهكذا تجد أنّ سيبويه راعى المنطق في قواعد النحو العربي لدقّته وضوابطه ، وقد التزم بها .
ويذكر لسيبويه دقته في مصطلحات النحو ؛ فثمة مُظْهر ومُضْمر ، ولكن النحويين تسامحوا فيهما ، فقالوا : الظاهر والضمير .
ولدينا أمثلة أخرى راعى فيها سيبويه المنطق ، مثل قاعدة (القياس) ؛ عرفوا القياس بأنّه: قول مؤلف من قضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر”
( المنطق – الشيخ محمد رضا المظفر – الصفحة ٢٣٥)
ومن تطبيقات القياس عند سيبويه المشبهات بـ ( ليس) ، قال سيبويه ( 1/ 120) ” هذا باب ما أجري مُجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز ” ، وكذلك الأبواب التي يراد به التشبيه من المصادر؛ قال سيبويه( 1/ 449، الحاشية 3 – الباب الثالث ) “وهو المصدر الذي فيه علاج ، أي: حدثٌ وفعلٌ ، ولكنّه هو الأوّل ، فمثل قولك: له صوتٌ صوتٌ حسنٌ ” ، وقال سيبويه (1/ 459) ” وممّا يجري مجرى التطابق في علم المنطق إعمال اسم الفاعل عمل الفعل ؛ قال سيبويه ( 1/ 237) :
” هذا بابٌ من اسمِ الفاعلِ الذي جرى مجرى الفعلِ المضارعِ في المفعولِ في المعنى:
1- فإذا أردْتَ فيه من المعنى ما أردْتَ في (يَفْعَلُ) كان نكرةً منوَّناً، وذلك قولك: هذا ضاربٌ زيداً غداً، فمعناه وعمله مثل: هذا يضربُ زيداً غداً.
2- فإذا حدّثت عن فعلٍ في حين وقوعه غير منقطعٍ كان كذلك، تقول :هذا ضاربٌ عبدَ اللهِ الساعةَ، فمعناه وعمله مثل: هذا يضربُ زيداً الساعةَ.
3- وكان زيدٌ ضارباً أباكَ، فإنّما تحدّثَ أيضاً عن اتصال فعل في حال .
ومن أمثلتهم التي يراعى فيها القياس ؛ قال سيبويه( 1/ 262) ” هذا بابٌ من المصادرِ جرى مجرى الفعلِ المضارعِ في عملِهِ ومعناه، وذلك قولك: عجبْتُ من ضَرْبٍ زيداً، فمعناهُ: أنّه يضربُ زيداً، وتقول: عجبْتُ من ضَرْبٍ زيداً بكرٌ، ومن ضَرْبٍ زيدٌ عمراً ،إذا كان هو الفاعل، كأنّه قال : عجبْتُ من أنّهُ يضربُ زيدٌ عمراً، ويضربُ عمراً زيدٌ”
ومن أمثلتهم التي يراعى فيها القياس أيضا ؛ قال سيبويه ( 1/ 328) ” ويجوز أن تجعل : (إن كان خيرٌ) على ( إن وقع خيرٌ) ؛ كانّه قال: إنْ كان خيرٌ فالذي تجزون خيرٌ”
وكذلك قول سيبويه (1/ 172):
“هذا باب ما جرى في الاستفهامِ من أسماءِ الفاعلِينَ والمفعولِينَ مجرى الفعلِ كما يجري في غيره مجرى الفعلِ، وذلك قولك : أزيداً أنت ضاربُهُ، وأزيداً أنت ضاربٌ له، وأعمراً أنت مُكْرِمٌ أخاه، وأزيداً أنت نازلٌ عليه .كأنّك قلت: أنت ضاربٌ، وأنت مُكْرِمٌ، وأنت نازلٌ ،كما كان ذلك في الفعلِ ؛لأنّه يجري مجراه ويعملُ في المعرفة كلّها والنّكرة، مقدّماً ومؤخّراً ،ومظهراً ومضمراً، وكذلك: الدّارَ أنت نازلٌ فيها.”

وفي جدل العلاقة بين علم المنطق والنحو العربي نتعجل القول إلى ما ذهب إليه صاحب المقابسات ؛ قال أبو حيّان التوحيدي (م عدد24) “إنّ البحث عن المنطق قد يرمي بك إلى جانب النحو، بحث عن النحو قد يرمي بك إلى جانب المنطق “. فقد اختلفت الكلمة في هذه العلاقة ، وتناولته دراسات غير قليلة تغنينا هن المزيد في البحث ؛ فقد درست الباحثة (فوزية فيض الله ) هذا الموضوع بدراسة موضوعية مستفيضة ؛ إذ أوضحت أنّ المستشرق أ- مركس لا يكتفي بافتراض تأثر النحو بالمنطق اليوناني، بل ُيرجع كلّ نحو وكلّ لغة إلى المنطق والفلسفة كما يرى أنّ أصل النحو العربي ليس النحو الإغريقي أو المنطق الرواقي، وإنما المنطق الأرسطي تحديدا، و كان مركس قد دعم هذه النظرية بإحالته على جملة من المصطلحات والقواعد والبنى المشتركة بين العلمين ؛ يقول جيرار جيهامي: “كرّس مركس نظريته هذه بدلالته على مجموعة من المصطلحات والقواعد المشتركة بين أصول المنطق الأرسطي وأصول النحو العربي الذي تفرّع مذاهب ومدارس؛ أوّلها أنّ تقسيم سيبويه لعناصر اللغة إلى اسم وفعل وحرف شبيه إلى حد بعيد بتصريف الأسماء والأفعال والحالات عند أرسطو، ثانيها : أنّ أرسطو لم يعرف الموضوع نحويا، إنما الصفة أو المقولة المحمول كذلك العرب الذين استبدلوها بموضوع “الخبر”، ثالثها : إنّ فكرة “الجنس” لم ترد أصلا عند اليونانيين وانعكست عند العرب في تصريف الأسماء والأفعال وتشكيلها في حالات الرفع والنصب والجرٌ، رابعها ” إنّ تقاربا معنويا جرى بين الألفاظ العربية وتلك اليونانية كمثل لفظ “الظرف” الزماني والمكاني الذي انبثق عن معنى “الوعاء اليوناني”.
( ينظر: في علاقة النحو بالمنطق من خلال بعض مقابسات التوحيدي ، مجلة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث : مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث – في علاقة النحو بالمنطق من خلال بعض مقابسات التوحيدي (mominoun.com)
وكذلك وجدنا الباحث الدكتور علي القاسمي قد بذل جهدا في تبيان الحقيقة ، وهي أنّ كثيرا من المستشرقين والمستعربين قد أيّد ” هذا الرأي القائل بأصالة النحو العربي في نشأته وعدم تأثره بالمنطق اليوناني، مثل المستشرق الهولندي، الدكتور، تي. جَي. دي بور (1866 ـ 1942)، الأستاذ في جامعة أمستردام وصاحب كتاب “تاريخ الفلسفة الإسلامية الصادر باللغة الألمانية سنة 1901، الذي قال فيه:
“احتفظ علم النحو العربي بخصائص له، ليس هذا مجال الإفاضة فيها، وهو ـ على كل حال ـ أثر رائع من آثار العقل العربي بما له من دقَّةٍ في الملاحظة، ومن نشِاطٍ في جمع ما تفرَّق، ويحقُّ للعرب أن يفخروا به، فلم يكن العرب يحبّون أن تعكّر عليهم الآراء الفلسفية العامَّة صفاءَ اللذة التي يجدونها في لغتهم، وكم نفر أساتذة اللغة المتشدّدون من صيغ لغوية أتى بها مترجمو الكتب الأجنبية.”
( النحو العربي وعلاقته بالمنطق للأستاذ الدكتور محمود محمد علي – علي القاسمي) (tanwair.com)

وفي ضوء هذه الحقائق التي انتهينا إليها ننتهي إلى أنّ (علم النحو العربي) الذي روعيت فيه قواعد المنطق إنما هو علم مستقلّ بنفسه لا يداخلنا الشكّ في إصالته وكونه لم يتأثّر بما سبقه ؛ لكونه وما سبقه قد صيغ على وفق قواعد فكريّة ، وحقائق علمية مطلقة انطلق منها العلماء في وضع قواعدهم ؛ كلّ على وفق ما كان يراه من أقسام أو مصطلحات.