أو (رينيه ويليك) للقرن الحادي والعشرين

فلاح حكمت إسحق / كاتب ومهندس عراقي




أقول بوضوح: سيخيب بحثنا. لن نجد نظيراً لأيّ من هارولد بلوم Harold Bloom أو رينيه ويليك Rene Wellek في القرن الحادي والعشرين. الفشل ليس إقراراً جازماً بعدم إمكانية وجود من يناظر كلاً منهما في قدراته التحليلية أو شغفه البحثي بل هو إقرارٌ بأنّ الخصائص الثقافية والمعرفية لعصرنا لم تعُد تصلح لظهور ناقد ثقافي بمواصفات أيّ من الناقديْن السابقيْن. الأمر شبيه بأن نقول أنّ عصرنا لم يَعُدْ قابلاً لأن يُنتِجَ من هو شبيه بِـ (كانت) أو (لايبنتز) أو(نيوتن). ليس عجزاً في الامكانية المبدئية إذن بقدر ما هو قطيعة بين خواص عصرنا وفواعله المعرفية من جهة، وإمكانية ظهور شخصية بمواصفات معرفية محدّدة.
الأمر أكبر من عدم إمكانية ظهور من هو بمواصفات بلوم أو ويليك. الأصل هو مساءلة حقل النقد الأدبي بأكمله. هل بقي ناقد أدبي؟ هل بقي نقد أدبي؟ الجواب أيضاً: كلا. لنفصّل الامر بهدوء وفي سياق تتبّع التاريخ المعرفي التطوّري للنقد الأدبي.
قبل كلّ شيء يمكننا ممارسة اللعبة اليسيرة التالية التي ستخبرُنا الكثير عن حال النقد الأدبي في أيامنا هذه. لنجرّبْ أن نبحث عن عنوان عام هو (Literary Criticism in the 21st Century ) في موقع أمازون العالمي. ماذا سنجد؟ سنجد عناوين معدودة قليلة. لعبتُ هذه اللعبة بنفسي، ووجدتُ أنّ أهمّ العناوين في هذا الحقل هما عنوانان:
الأول: Literary Criticism in the 21st Century: Theory Renaissance
لمؤلفه Vincent B. Leitch. الكتاب صادر عام 2014. لننتبهْ إلى العنوان الثانوي فهو ينطوي على مفارقة مثيرة. تشير عبارة (إعادة بعث النظرية) إلى إقرار بأنها مكثت طويلاً تحت رماد الفضاء الاكاديمي أو العام، ولم تعد تشكلُ عنصراً حيوياً في البنية التحتية للثقافة الأدبية أو العامة.
الثاني: The Work of Reading : Literary Criticism in the 21st Century
وهذا كتاب منشور عام 2021، وهو جهد تحريري لموضوعات عدة ثرية نهض بعبء تحريرها ثلاثة (ليس مهماً ذكر أسمائهم على كل حال. ليس أيٌّ منهم له شهرة بلوم أو ويليك في ميدانه الاكاديمي!). القلّة إذن هي العنوان العام للمنشورات الممهورة بعنوان النقد الأدبي، وهذه القلة ليست من غير دلالة مشخّصة. القلة تعني بالضرورة قلّة الاهتمام وخفوته وتراجعه. جرّبْ أن تبحث عن موضوع في الذكاء الاصطناعي وستنهال عليك العناوين كشلالات نياغارا، وسترى أنّ العقلنة في البحث وسط هذه الاكداس من آلاف العناوين تقتضي حصر البحث في عنوان محدّد بصرامة (أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الميدان الطبي مثلاً، أو الواقع المعزّز…، إلخ).
هذا هو الجزء الأول من اللعبة الاستقصائية المشهودة. الجزء التالي هو مقارنة بعض موضوعات هذين الكتابين بموضوعات كلاسيكية في واحد من المؤلفات المرجعية في النقد الأدبي في القرن العشرين، وأظنّ أنّ سلسلة تاريخ النقد الأدبي الحديث بأجزائها العديدة لرينيه ويليك تصلح مرجعاً قياسياً في هذا المجال ( هذه السلسلة معرّبة ومنشورة عن المركز القومي للترجمة). الفرق شاسع للغاية. يبدو الأدب في مؤلفات ويليك جسماً جمالياً يُرادُ من الناقد الأدبي المحافظة على نقاوته وطهرانيته من التلوث الدنيوي. الامر ذاته يحدث مع بلوم في كتبه المنشورة، ومنها مثلاً: المُعْتَمَد الأدبي الغربي The Western Canon (سمّي التقليد الأدبي الغربي في الترجمة العربية) مع فارق أنّ بلوم يبدو أكثر أصولية من ويليك. الناقد الأدبي الكلاسيكي يبدو كالمؤتمن على المواريث الكلاسيكية الرفيعة إلى حدود يغدو معها النقد الأدبي أقرب لوظيفة أخلاقية وإن شابتها لمسة جمالية وفلسفية. هناك دوماً في النقد الأدبي الكلاسيكي مرجعيةٌ ما تصلح أن تكون مقياساً معيارياً، ولا فرق أن يكون هذا المقياس المعياري الكتاب المقدّس أو شكسبير. الأدب بحسب النقد الأدبي الكلاسيكي يرادُ منه (بمعنى أنّ أحد وظائفه) رفعُ الانسان من تلوثه الارضي (الدنيوي) نحو مقامات علوية متسامية ومفارقة للقدرة البشرية العادية على الصعيدين الاخلاقي والذهني (والجسدي أحياناً كما في الأدب الموظّف للأسطورة). الهندسة الموضوعاتية في النقد الأدبي تبدو واضحة: أسماء محدّدة وعصور محدّدة وموضوعات محدّدة ومذاهب جمالية محدّدة. الأدب كما يراه النقد الأدبي مملكة يشيع فيها الجميل والجليل والسامي والمترفّع. في قبالة هذا، لو قرأنا بعضاً من موضوعات الكتابيْن السابقين عن النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين لهالنا الفرقُ والتمايز في الموضوعات والتناول المفاهيمي. الفرق بين كتب النقد الأدبي في القرن العشرين (بكثرتها البيّنة) وكتب القرن الحادي والعشرين (بقلّتها البيّنة كذلك) هو كالفرق بين الماركسية والرأسمالية. يُقال في الأوساط الغربية المتشدّدة بالضد من الماركسية أنّ الماركسية تنطوي على اعتبارات أخلاقية ومثالية لكنها لا تعمل بكفاءة في الواقع، في حين أنّ الرأسمالية غارقة في التلوث حتى رأسها لكنها تعمل بصرف النظر عن كل إفرازاتها غير المحمودة. ليس المهم أن تطرح نظرية بمواصفات أخلاقية رفيعة. المهم هو أن تجعل النظرية تعمل وتفيد وتنتج فائضاً مادياً في الحياة التي نعيشها.
لغرض المقارنة فحسب بين موضوعات النقد الأدبي الكلاسيكي التي لطالما عهدها القارئ في هذا النقد وموضوعات النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين، سأسجلُ بعضاً من الموضوعات الواردة في الكتابيْن اللذين أشرتُ إليهما أعلاه. هي عيّنة لغرض المقارنة فحسب:
- – هل لم يزل المؤلف ميتاً؟
- – النقد في الاقتصاد النيوليبرالي
- – هل للمعرفة مكان في دراسة الإنسانيات؟
- – أي نوعٍ من البشر ينبغي أن يكونه الناقد؟
- – ضديد النظرية (الأدبية)
- – النظرية (الأدبية) اليوم وغداً
- – الحياة الثانية للنظرية الفرنسية
- – إعادة قراءة ما بعد الحداثة
- – مواريث ديريدا
سيصابُ المرء بذهول: الفضاء الثقافي مختلف تماماً، والمقاربة المفاهيمية متمايزة، والموضوعات مختلفة. هذه موضوعات تبدو وكأنها تنتمي إلى حقل النظرية الأدبية أو الثقافية (الدراسات الثقافية صارت الغطاء الرسمي للنظريتين). ليس ثمة فيها ما قد نشمّ منه رائحة نقاد أدبيين على شاكلة: وليام إمبسون، كلينيث بروكس، وليام ومسات، نورثروب فراي. بل يمكن الذهاب أبعد من هذا الامر: عناوين هذه الكتب مضللة أو مراوغة بطريقة قصدية! فهي وإن أوردت النقد الأدبي في عناوينها الرئيسية لكنّ مؤلفيها قصدوا النظرية الأدبية أو الثقافية.
*****
حافظت الحداثة الأدبية على اعتبارات التصالح مع تقاليد النقد الأدبي الراسخة المتوارثة من القرن التاسع عشر (كان ماثيو أرنولد Matthew Arnold مثالها الاعلى). الحداثة هشّمت إستمرارية الزمان والمكان؛ لكنها لم تشأ ملاعبة السرديات الكبرى التي مثّلت عناصر جوهرية في الأدب ما قبل الحداثي، سرديات على شاكلة: الولادة، الموت، الشيخوخة، الحياة، مشقات العيش… . يلاحظ في هذا الشأن أنّ بعضاً من أهم روائيي وروائيات الحداثة كانوا نقّاداً ذوي سطوة وبأس (فيرجينيا وولف و دي. إج. لورنس مثاليْن في هذا الشأن).
حصلت القطيعة بين تقاليد النقد الأدبي الكلاسيكي والصنعة الأدبية في عصر ما بعد الحداثة بعد أن هشّم هذا العصر مفهوم السرديات الكبرى Grand Narratives وفضّل إستبدالها بمفاهيم صغيرة لها خصيصة الفعل العشوائي والاحتمال الصدفوي. كلنا نولد ونموت ونشيخ ونعاني في حياتنا: هذه سرديات كبرى، لكنّ تجربة حبّ صدفوية غير متوقّعة تحصل في سياق عشوائي قد تلعب في حياة أحدنا دوراً لا يمكن تصوره من قبل آخرين. علو صوت السرديات الصغرى التي تعمل على مستوى فردي وبكيفية غير متماثلة مع الجميع هو أحد أهم أسباب افتراق النقد الأدبي عن الحرفة الأدبية في عصر ما بعد الحداثة لأنّ المسطرة النقدية ما عاد ممكناً ضبطُها بمرجعيات قياسية متماثلة. ومن هنا قيل أنّ ما بعد الحداثة هدّمت المرجعيات المعرفية (ومنها المرجعيات النقدية)، وفي غياب هذه المرجعيات لا يمكن تصوّر قيام نقد أدبي بأي شكل كان. ثمّة حقيقة أخرى: تمازج أدب ما بعد الحداثة بجرعات قليلة أو عالية من الآيديولوجيا والمعارف المستمدّة من الفتوحات الجديدة في المعرفة البشرية، وربما كانت الماركسية أهمّ هذه المداخلات الآيديولوجية برغم أنّ الفرويدية كانت لها مواريثها الممتدّة من عصر الحداثة. لم يعد الأدب خبرة شخصية محصورة في نطاق الرؤى الجمالية والاعتبارات البلاغية والالاعيب اللغوية والتبصّرات الفلسفية بقدر ما صار ميداناً إختبارياً لإشتباك عناصر مؤثرة في النسيج الفردي والمجتمعي على شاكلة: الذاكرة، الهوية، النوستالجيا، الهجرة، الاعطاب Trauma النفسية، النسيان، التابع والهامش في مقابل المركزيات المهيمنة.
ترتّب على هذا التداخل بين الصنعة الأدبية والنقد الأدبي والكشوفات المعرفية الجديدة والنزوعات الآيديولوجية المتباينة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية أن حصل إنزياح في مفاهيم النقد الأدبي باتجاه أن تكون ثقافية شاملة أكثر من كونها محصورة في النطاقات الأدبية الضيقة. صار النقد الأدبي يسمّى (نقداً ثقافياً)، ثمّ تداخل النقد الأدبي (الثقافي) مع النظرية الأدبية التي لبست رداءً مفاهيمياً واسعاً عنوانه النظرية الثقافية. في خطوة لاحقة ومع بدايات الالفية الجديدة توسّعت النظرية النقدية لتكون حقلاً عنوانه الدراسات الثقافية. صار المشتغل بالثقافة هو العنوان الاكثر لياقة والاقرب تقنياً لواقع الحال من عبارة الناقد الأدبي.
كانت الجولة التاريخية الموجزة أعلاه مسحاً سريعاً للكيفية التي تطوّرت بها خريطة النقد الأدبي في عالمنا. أهمّ ما يتوجّب التأكيد عليه هو أنّ هذا التطوّر لم يكن وليد شغف ذهني رغبوي خالص بقدر ما جاء استجابة لمؤثرين :
المؤثر الاول: هو العلم وتطبيقاته التقنية التي أثّرت في -وأعادت تشكيل- كيفية تفاعلنا مع العالم، ومن البديهي أن ينعكس هذا التأثير في هياكلنا السردية التي نستخدمها للتعبير عن تفاعلاتنا المعقدة مع العالم.
القطار مثلاً كان له دور مركزي في أدب الحداثة لانّه كسر رتابة الزمن الممتد بلا نهاية. تحوّل الزمن من مركّب خطي مستديم إلى برهات مكثفة ذات أهمية لفرد منّا دون الآخرين. الامر ذاته يمكن أن نشهده مع الثورة المعلوماتية ومنصات التواصل الاجتماعي حيث القدرة اللحظية على التفاعل البشري. أنماط السرد كلها (مكتوبة أو منطوقة) صارت عرضة لتغيّرات ثورية تجلّت منعكساتها الكبيرة في الصنعة الأدبية وحصيلتنا الثقافية العامة.
الناقد الأدبي يمثل لنا في ذاكرتنا الجمعية من أوكلت له مهمّة الحفاظ على التقاليد الرصينة؛ ومن هنا فهو يوصف على الاغلب بالمحافظة. التغيّر العلمي والتقني المتسارع يقتضي بالضرورة عقلاً ديناميكياً مصمماً على قبول التبدّلات وعدم الركون للمرجعيات الثقافية. صار من الطبيعي أن يتهدّم عرش الناقد الأدبي ليحلّ محله المشتغل الثقافي الاكثر تواضعاً وثورية في قبول التغيير المتسارع.
المؤثر الثاني: صار كل منشط معرفي على النطاق الجمعي في القرن الحادي والعشرين يسعى ليكون له موطئ قدم في تخليق الثروة وبخاصة في عصر الاقتصاد النيوليبرالي المحكوم بقوانين السوق الحرة المتغوّلة. اليوم بات الأدب قيمة سلعية تحتسبُ بمقدار ما تساهم في مراكمة أرباح المؤلف والناشر. كل عنصر تدخّلي خارجي في معادلة الثلاثي (المؤلف- الناشر- السوق) صار يُحسبُ وكأنه نظير تدخل الدولة الشمولية في شؤون مواطنيها. القانون اليوم هو إلقِ منتجك الأدبي في السوق الحرة للأدب والخاضعة لديناميات العرض والطلب فقط. هذه الديناميات وحدها هي التي ستحدّد قيمة منتجك وليس الناقد الأدبي. هذه الحالة تقتضي تغييباً قسرياً للناقد الأدبي الذي سيكون تدخله مؤذياً ومنافياً لشروط السوق الحرة. وماذا عن المشتغل الثقافي؟ سيكون عمله مقيّداً في نطاق السياسات الترويجية التي تخدم الشركات العملاقة.
ربما لن يتعاطف كثيرون مع هذا الوضع وسيأخذهم الحنين صوب سنوات سابقات حيث الأمر أكثر تحديداً، والأدب أكثر نزوعاً جمالياً وفلسفياً بدل الغرق في لجّة هذا العماء العلمي والتقني المركّب الذي نعيشه، لكننا في كل الاحوال جزءٌ من هذا العالم ويجب أن نفهم القوانين التي تسيّره حتى لو تسبّبت في إثارة مكامن الامتعاض والتمرّد والألم فينا.