
لم تكن علاقتي بموسى كريدي علاقة خاصة تمكنني من الحديث عن ذكريات ومواقف مشتركة كما يحدث في العادة بين الأصدقاء والقرباء الخلّص، مع أني كنت ألتقيه مع غيري ومثل غيري في المقهى والدائرة، أقرأ له وأتحاور معه بمفردي أو صحبة بعض الأصدقاء وأعرفه بعض المعرفة كما يعرفني، ويكن لي كما أكنُّ له شيئًا من التقدير الحب هو الذي يدفعني أن أستذكره هنا في بلاد الغربة، وأكتب عنه بعد سنوات طويلة من رحيله.
وقد كان فوز قصتي (نسر بين جبال الثلج) بالجائزة الأولى في مسابقة وزارة الثقافة والإعلام عن قصص الحرب عام 1982 مناسبة لتعميق معرفته بي والاهتمام بما أكتب.وقد كان موسى آنئذ رئيس تحرير مجلة الأقلام التي كانت القصة مقدمة للنشر فيها، ولكنه اتصل بي باعتباره سكرتير لجنة الجائزة ومقررها وطلب مني الاشتراك في المسابقة، بدلًا من نشر القصة في المجلة. وحين سألته عن رأيه فيها لم يقل لي شيئًا سوى أنه يحبّذ دخولها في المسابقة. وحين سألته عن المشاركين الآخرين في هذه المسابقة ذكر لي بعض الأسماء المعروفة مثل عبد الخالق الركابي وعبد الستار ناصر ووارد بدر السالم، وغيرهم كثيرين. وحين عرفت أن جبرا إبراهيم جبرا وفؤاد التكرلي ومحسن الموسوي أعضاء في تلك اللجنة وافقت على الفور. وكنت أعرف أن تلك القصة التي كتب عنها عديدون بعد فوزها بما في ذلك جبرا إبراهيم جبرا كانت حصيلة تجربة خاصة لطيار عراقي كنت التقيته مع الصديقين القاصين لطيف ناصر حسين وأخيه عبد الجبار ناصر وسمعت منه ومن غيره من طيارين آخرين، التقينا بهم كصحفيين وكتاب قصة شباب، في قواعدهم وخلال ساعات عملهم قصصًا مدهشة عن الحرب في هذا العالم الخاص من الحرب وما يحمله من مخاطر تحتاج إلى معرفة علمية وخبرة وشجاعة وروح وطنية. وكانت القصة التي عرف موسى قبل غيره أهميتها مزيجًا من واقع وخيال كانت طبيعة عمل هؤلاء الطيارين وما يحمله من مخاطر وحكايات تبدو أحيانا خيالية لفرط واقعيتها.
وكما قلت، ليس بيني وبين أبي أوس خارج هذه القصة من وثوق الصِّلة ما يسمح بالكتابة عن تفاصيل كثيرة بيننا تختلف عما كان بينه وبين آخرين كثيرين من الأدباء من علاقات. وإن كانت صورته وهو يعمل كسائق تكسي في سيارته البرازيلي في أخريات حياته أيام الحصار وضيق ذات اليد قد بقيت لا تفارق مخيلتي. وكنت أتألم كيف لم يشعر أحد من كبار مسؤولي الوزارة التي أمضى موسى عمره بالعمل فيها رئيسَ تحرير، وموظفا من موظفي الكادر المتقدم فيها، نعم لماذا لم يشعر أحد بالفضيحة من أن يُترك كاتب معروف شريف مثله للشارع في العراء دون أن يمدّ أحد يده إليه لانتشاله من تلك الأوضاع المأساوية الصعبة عليه وعلى عائلته. وأنا أقول ذلك مع معرفتي أن موسى لم يكن من النوع الذي يمكن أن يقبل المهادنة أو المساومة على موقفه ومبادئه التي كانت مختلفة منذ البدء، رافضًا فيها لكثير من المواضعات التي كان آخرون مستعدين للقبول بها مع معرفتهم بعدم سلامتها من الناحيتين المعرفية والأخلاقية. وقد سبق أن ذكرتُ أن موسى كان، مثل زميله حميد المطبعي، موظفًا في دائرة ثقافية وإعلامية غير مؤمن تمامًا بثقافتها وإعلامها، بل ويتقاطع معهما أحيانا كثيرة. وكانت معرفة الجميع بموهبته في الكتابة ونظافته الداخلية غير المختلف عليها تدعو إلى احترامه، وتمنع من التعرض له بسوء. ولذلك فقد بقي حتى موته المبكر فقيرًا معدما، موفورَ الكرامة لم يخضع قط لما يمكن أن يمسّ شيئًا من كبريائه وعزة نفسه.
