أد. حسين محمود

الكتاب الذي نقدمه للقارئ هو كتاب صغير نشرته مارثا نوسباوم عن أزمة تدريس الإنسانيات في التعليم (ليس كلاما جديدا. لماذا تحتاج الديمقراطيات إلى ثقافة إنسانية)، وقد رأينا عرضه بعد أن ثار في الآونة الأخيرة كلام كثير حول أهمية الدراسات الإنسانية وتدريسها في مراحل التعليم المختلفة، والعرض الذي نقدمه هنا يستفيد من عروض الكتاب نفسه وخاصة للكاتبين بيرلويجي بيلليني وكلاوديو جونتا. 

يبدأ الكتاب باقتباسين، أحدهما من طاغور والآخر من ديوي، وكلاهما يندب أزمة التعليم الإنساني. وبقراءة ما كتبه طاغور في عام 1917 وديوي في عام 1915، فإننا اعند قراءة كتاب نوسباوم، نستخلص أن هذه الأزمة ليست قاصرة علينا، ولا هي نتاج اليوم، وإنما أخبر بها الإنسانيون منذ قرن كامل أو يزيد، ولذا أرى أنه لا يوجد ما يدعو للقلق حقا.

وهذا صحيح جزئيا، لأن الأمور تغيرت جزئيا بالفعل، وليس من غير المجدي ملاحظة هذه التغييرات وإعادة قراءتها. ما تغير، بين سنوات طاغور وأعوامنا، هو أن العلم والتكنولوجيا قد أحدثا ثورة في الطريقة التي نعيش بها؛ وأن الحياة، في المجتمعات الغربية، أصبحت معقدة للغاية لدرجة أنها تتطلب بشكل متزايد مهارات غير مطلوبة من المثقفين القادرين على تفسير العالم (الفلاسفة والمؤرخين) ولكن من الفنيين القادرين على إنجاحها (الاقتصاديين والفقهاء والأطباء).

ورغم أن تعليم العلوم الإنسانية ”العامة“ أقل قابلية للاستهلاك اليوم مما كانت عليه في زمن طاغور وديوي. فالفنون، كما كتبت نوسباوم، ”ضرورية لتحقيق هدف النمو الاقتصادي وثقافة البيزنس السليمة . فالابتكار يتطلب ذكاءً جوهريًا ومنفتحًا وإبداعيًا، والآداب والفنون تحفز هذه المهارات، وعندما تنعدم هذه المهارات، سرعان ما تضعف ثقافة البيزنس“. على افتراض، بالطبع، أن الغرض من تعليم العلوم الإنسانية هو تخريج ”ثقافة بيزنس“ (أياً كان ذلك البيزنس).

لا ينبغي لقسم الفلسفة أن يخرّج مدراء، بل ينبغي أن يخرّج علماء فلسفة أو حتى فلاسفة؛ فإذا أصبح الفليسوف مديرا، فهذا عظيم. 

لذا فإن السؤال المطروح هو بالضبط: ما إذا كان التعليم الإنساني منطقيًا في حد ذاته، خارج (وربما ضد) ”ثقافة البيزنس“. تجادل نوسباوم بأن الكتب الجيدة تعمل على تكوين مواطنين ديمقراطيين صالحين. وهذا صحيح بلا شك، ولكن المسألة لا تتعلق بما تتم دراسته، بل بكيفية الدراسة. تكمن المشكلة في أن تعليم المواطنين هو مسؤولية الدول ولمصلحتها. وفي الوقت الذي تصبح فيه الدول، أضعف وأفقر، فمن الصعب تخيل من سيتحمل هذا الاستثمار الذي ليست له عوائد في ”الثقافة غير الهادفة للربح“.

إنها ليست فقط ثقافة غير هادفة للربح، بل مثيرة للمتاعب السياسية، وغالبا ما تحتاج إلى نوع من الرقابة الرسمية أو الشعبية أو الدينية، وخاصة عندما تصبح منبعا للشك وعدم اليقين والمقاومة وما إلى ذلك مما لا يرضي الحكومات فتأنف من الإنفاق عليها. 

ربما للتوقف عن التذمر يجب أن نعيد وصف الأشياء بطريقة مختلفة تماما. في القرنين الماضيين، عمل الروائيون والشعراء والفنانون والفلاسفة بشكل جيد. ليست التكنولوجيا وحدها هي التي غيرت الطريقة التي نعيش بها: إنها أيضا أفكارهم ، التي أصبحت بمرور الوقت مشاعر مشتركة ومفاهيم مشتركة. والحقيقة أن أوروبا عندما وصلت إلى أوج ازدهارها، وتدفقت عليها أنهار من أموال البيزنس، واستعمرت الكرة الأرضية تقريبا كلها، كان الأدب والفن يتم تدريسهما في المدارس والجامعات وأسهما في تكوين ما نسميه الآن  ”الإنسانيون“، الذين عملوا أيضًا بشكل جيد. 

 من المرجح أن يستمر منهج العلوم الإنسانية في الوجود، ولكن على الهامش قليلا مقارنة بما يسمى “التدريب المهني”. في الواقع ، كان الأمر هكذا في الماضي أيضا ، لقد كان دائما هكذا. ربما ما نحتاج إلى المراهنة عليه هو انتشار الإنسانية، ونقل الفن والأفكار خارج الفصل الدراسي. إذا نظرت حولك – وشاهدت الأفلام ، واستمعت إلى الأغاني ، وقرأت المدونات – ستجد بعض علامات الأمل الخافتة التي تتعزز فقط ب “التدريب الإنساني” الذي لا توفره  سوى الدراسات الإنسانية الجيد والعميقة.