مدن السور بين الواقع والمستقبل

مدن السور بين الواقع والمستقبل

طارق النعمان

مدخل:

بعد دعوة الصديق العزيز أد. محمد مشبال الكريمة للمشاركة في هذا الكتاب عن موضوع ’’الأدب والمدينة‘‘، وخلال عملي الذي طال عليه، وبعد ارتحالي وتنقلي بين أكثر من فكرة وأكثر من مدخل، وما صحب كل فكرة من قراءات متعمقة وجدتني أعود لأقرَّر أن أكتب عن الرواية والمدينة بشكل مُحدَّد. وحقيقة ومن قبل أن أبدأ في العمل على موضوع المدينة وأنا مَعْنِيٌ ومُنْشَغِلٌ بواقعي الاجتماعي وما يطرأ عليه من تحولات شهدتُ الكثير منها، وعايشتُ معظمها بألم وأسى وأسئلة متنوعة. ولا شك أن من بين ما كان، ومازال، يؤرقني على الصعيد الاجتماعي والسياسي والطبقي تلك الفجوات الطبقية والمعيشية العميقة المتكاثرة والمتزايدة الاتساع في الواقع المصري، والعربي عمومًا. ومن بين أبرز تجليات هذه الفجوات ظاهرتان على متصل ببعضهما البعض، وهما ظاهرة العشوائيات من جهة، وظاهرة المدن المغلقة بكل تجلياتها ومستوياتها وما تحويه من مظاهر وظواهر.

ولا شك أن الرواية من الفنون المدينية بامتياز وأنها من أكثر الفنون استجابة وتفاعلاً مع تحولات المدينة وإشكالياتها. ولعله يمكن القول إن من أبرز ما طرأ على القاهرة من تحولات في العقود الثلاثة الماضية ظاهرتان متضادتان ومتنافرتان إلا أنهما، وللمفارقة، متجاوبتان طردًا وعكسيًا، وعلى متصل ببعضهما البعض، وهما ظاهرة العشوائيات والجيوب والهوامش الحضرية التي أخذت تتكاثر على أطراف القاهرة وتتغلغل في أحشائها بشكل لافت خلال تلك العقود، وظاهرة المدن السكنية المُغْلَقَة والمُنْغَلِقَة على ذاتها، أو ما أصبح يُعرَف في الأدبيات العمرانية بمجتمعات البوابة. وإذا كانت الظاهرة الأولى قد وجدت سبيلها إلى العديد من الروايات، كما هو في نصوص من قبيل ’’لصوص متقاعدون‘‘ و’’الفاعل‘‘ لحمدي أبو جُليل، و’’كيرياليسون‘‘ لهاني عبد المريد،  و’’خير الله الجبل‘‘ لعلاء فرغلي، و’’61 شارع زين الدين‘‘ لسعيد نوح،  وروايات عديدة أخرى سواها، وصولاً إلى أحدث رواية صدرت في هذا الصدد، وهي رواية عادل سعد ’’أيام الطالبية‘‘؛ فإننا، في المقابل،  لا نجد سوى نص روائي وحيد فقط يتناول الظاهرة الأخرى أو الظاهرة النقيض، أي ظاهرة تلك المدن السكنية المُغْلَقَة والمنطوية على ذاتها، أو مجتمعات البوابة، على حد ما يُشار إليها في الأدبيات العُمْرَانية المعاصرة، وهو نص هالة البدري ’’مُدُن السور‘‘. ولا شك أن العنوان بالغ التركيز والتكثيف والتمثيل والدلالة. ولعله يمكن تفسير هذا الفارق الكمي بانفتاح عالم العشوائيات؛ ومن ثم سهولة ويسر ولوج الروائيين والروائيات إليها، والتعرف على تفاصيل ومفردات عوالمها، في مقابل انغلاق عوالم ’’مدن السور‘‘، أو ’’مجتمعات البوابة‘‘ على الروائيين والروائيات، في ظل انتماءاتهم الطبقية التي لا تتيح لمعظمهم معاينة هذا العالم من داخله والتعرف على مفرداته وتفاصيله وشفراته المُتعدِّدة والمُعقَّدة. وإن كان هذا لا يعني أن هالة البدري تنتمي طبقيًا إلى عالم مدن السور، كما لا يعني أن النصوص الروائية استنساخ حرفي للواقع، إلا أن المؤكد أن فن الرواية هو فن التفاصيل الصغيرة والدقيقة، التي تتطلب معرفة جيدة بخصائص ودقائق العالم الذي يتم تمثيله وتصويره. ولذلك فإن البدري لا تغوص في مفردات وتفاصيل ودقائق تفاعلات هذا العالم الراهنة والداخلية بقدر ما تلعب على أبعاده وآفاقه الرمزية والسياسية شبه الكونية، وطبيعة ونوعية تفاعلاته مع ما هو خارجه، وتطوراتها عبر الزمن وآثار هذه التطورات على النوع الإنساني وعلى معنى الحياة والوجود بالنسبة للإنسانية، أي أنها تلعب على ما يمكن أن تُفضي إليه هذه المدن، مدن السور، في المستقبل.

اضغط هنا لمتابعة القراءة