
باهرة عبد اللطيف/ إسبانيا
إنجاز مي مظفر الأدبي والثقافي والإبداعي يتلخص في كونها صوتًا أنثويًا عبر عن فئة اجتماعية انتمت لها من خلال نصوص شعرية وقصصية ذات أفق حداثي. فقد ظهرت في زمن هيمنة سردية ذكورية في العراق مع قلة من الكاتبات (ديزي الأمير وعالية ممدوح وبثينة الناصري…) وعبّرت عن الذات النسوية المستقلة الواعية، بعيدا عن هيمنة الضغط السياسي والآيديولوجي. غير أنها لم تكتف بهذا فهي ناقدة فنية وثّقت ذاكرة الفن العراقي الحديث، ووجدانًا عراقيا مبدعا حمل هموم المرأة والمجتمع والمنفى، وصاغها بلغة تجمع بين الشعرية والفكر والفن.
لذا لا بد لنا من الحديث عن مي مظفر الناقدة التي جعلت من الفن كتابةً ثانية للحياة.
في عالم النقد الفني، تبدو مي مظفر أشبه بعين ثالثة ترى ما وراء الألوان والخطوط، وتنفذ إلى الأعماق التي قد تغيب عن المتلقي العابر. لم تكن ناقدة بالمعنى الأكاديمي الجاف، بل شاعرة دخلت عالم الفن لتعيد كتابته بلغة القلب والحدس. في نصوصها، يمتزج التوثيق بالدفق الإنساني، والمعرفة بالإنصات العميق، حتى تتحول القراءة إلى رحلة في الألوان والخطوط والفراغات التي تحمل أسرار الروح. أسلوبها النقدي فريد، ينحاز للتأمل لا للصرامة، للحوار لا للأحكام، للبحث عن الجوهر الذي يتجاوز الشكل إلى المعنى. لغتها شاعرية، شفافة، تجعل من كل مقالة شهادة حب للفن وللفنان، ومن كل دراسة جسرًا بين القارئ وعوالم التشكيل. وأعمالها في النقد التشكيلي تُظهر تكاملاً بين اللغة البصرية واللغة النصية، لتؤسس ما يشبه “القصيدة اللوحة”.
أما حين كتبت عن الفن العراقي الحديث، فقد جمعت بين التوثيق الدقيق والتحليل المتأنّي، مُقدِمةً شهادة فنية وفلسفية في آن واحد. ويشهد كل من عرفها أو قرأ لها بكونها ناقدة موضوعية، لكنها في الوقت نفسه متواضعة، تتردد أمام تجربة الفنانين خشية أن تخون اللغة عمق التجربة. وبهذا الشعور بالمسؤولية تحولت مي بعصاميتها وجهدها إلى حارسةٍ لذاكرة الفن العراقي المعاصر، موثقة وناطقة باسم جيل كامل عاش الحلم الجمالي برغم المحن، من خلال كتبها التي جاوزت الستة كتب ومحاضراتها وخبراتها في مجال الفن.



الوعي الثقافي بالمنفى:
لا بد لنا من التطرق إلى سيرتها الحياتية، إذ بعد مغادرتها العراق بفعل الحرب عاشت مي في عمّان، لكنها لم تنقطع عن الإنتاج الأدبي والفكري فواصلت الكتابة والإنجاز. كتبت عن المنفى، عن الذاكرة، وعن الاغتراب بلغة تضج بالحنين والألم الإنساني.
كتابها “سيرة الماء والنار“ يمثل ذروة هذا المزج بين السيرة الذاتية والوعي التاريخي والفني، إذ وثّقت حياتها مع الفنان رافع الناصري وسردت سيرة العراق الحديث كخلفية للسيرة الشخصية.
