الدكتور جمال العتابي في مجلة رواق التشكيل
نشرت مجلة (رواق التشكيل) العدد 14 حزيران 2022 مقالتنا :
مرتضى الجصاني
إيقاعات تعبيرية في جماليات الحرف
أحسب أن دهشة المتلقي ستتضاعف، لوكانت أعمال الفنان مرتضى الجصاني ماثلة أمامه نابضة بالحياة، يتأملها أويتلمسها عن قرب، يمكن أن يشار لها بوضوح، فالصورة لا تعبّر عن إمتلاك الحلم وحدها، تجربة لمرتضى تبدأ من اللوحة، وتنتهي بذات الفنان الإنسان جديرة أن تكون موضع دراسة، لإستيعاب الدفقات العارمة في خضم تيارات الفن الحروفي الحديث.
لقد نوقشت هذه الظاهرة الجديدة من جوانب عديدة، وكتب العديد من النقاد متتبعين أسبابها الموضوعية، وبواعثها الجمالية، وتقصي روافدها الأولى، منذ أن ظهرت كحركة فنية إستلهمت جماليات فنون الخط العربي، في الجمع بين التقليد (الأصول والقواعد) والحداثة، وكان للفنانين العراقيين الدور المتميز في تأصيل الحركة، وتأطيرها ضمن المفاهيم الجمالية الحديثة، ويقف شاكر حسن آل سعيد في مقدمة هؤلاء، وإلى جانبه جيل من المبدعين عمل على إيجاد لغتهم الخاصة في الحوار مع الحرف، تتخطى التقاليد، بتفكيك الكتابة، وتحويل الحرف إلى علامة إشارية جمالية متاحة للجميع، ومن هؤلاء الفنانين التشكيليين : جميل حمودي، مديحة عمر، حسن المسعود، سعدي الكعبي، محمد غني حكمت، ضياء العزاوي، رافع الناصري، محمد سعيد الصگار، صادق الصائغ، فضلاً عن فنانين آخرين من مصر، والأردن وسوريا وبلدان شمال أفريقيا.
ان المتابع لتجربة الجصاني يلمس بوضوح جرأة في الأداء والتجاوز، وإكتساب الإسلوب المتميز، مما أضاف تنوعاً أدائياً في الإسلوب والموضوع، إذ تمكن مرتضى من ضبط قواعد الخط العربي بأصوله، وبمرجعياته الصارمة، ودمجها بتراكيب معاصرة.
وبحكم العلاقات الحضارية الجديدة، تمكن الواسطي من تجاوز عقدة النقص من(الماضوي)، التي غالباً ما يطلقها ممثلو التيارات الحديثة في النقد التشكيلي على الموروث، والنظرة للأعمال الفنية التراثية كرموز للتخلف، وصار على الفنان الخطاط أن يثبت سلوكه التمدني الجديد، بالتخلص من آثار ذلك الماضي، ما دامت تشير بإصبع إيحاء إلى الرجعة الزمنية. وللأسف الشديد يمكن القول ان القفز المتعجل في تيار الحداثة، يفقدنا الكثير من جوانب تراثنا الحي، وبالتالي أفقدنا قدرة القراءة الموضوعية للعمل الفني، وهو ما إنتبه اليه مرتضى الجصاني في أغلب أعماله، فسار على خطى من سبقه في هذا الميدان، وهو يذكر بوفاء تأثره بالفنان محمد سعيد الصگار.
قدّم الجصاني تشكيلات مدهشة، وتكوينات حروفية بإنسيابية عالية، فخلق من إمتدادات الحروف، وإلتقاءاتها إيقاعاً لا نظير له في الإنسجام والوحدة، لكتلة بصرية ممتدة في عمق وعيه لجمالية الحرف، وقدرته على تطويعه، ليدعه طليقاً حراً تارة، ومثيراً للتساؤلات تارة أخرى، وتندرج هذه التكوينات ضمن مفهوم التركيب الذي يعرف بأنه عملية تنظيم، وتآلف وبناء العناصر (الحروف، الكلمات، المقاطع، الشكل)، بهدف خلق وحدة ذات تعبير فني، وفق منهج جمالي معين (أياد الحسيني، التكوين الفني في الخط العربي)، والجصاني على وفق تلك القياسات يمتلك تفرده الخاص، كونه يمنح المتأمل حق الإستذكار، بل والإحساس بعالم جديد ومتخيل.
إن نظرة متفحصة في كل ماصنعته يد مرتضى الماهرة، تقودنا إلى الكشف عن حقائق جوهرية في مسيرته الإبداعية، وهو ما يزال في ريعان شبابه(مواليد 1988)، فهو معني بالعمل الذي تمليه تجربته الفنية، وإدراك مترادفاتها، وقناعاته المبنية على خلق الدهشة، دون أن يكبّل وجدان المتلقي وفكره بأغلال مصنوعة وزائفة، ويتواطأ معه لقبول السائد، فيخون بذلك بصيرته، وإلتزامه النابض.
محاولات مرتضى الجصاني تدخل ضمن الممارسات التجريبية التشكيلية الرائدة في توظيف الحرف العربي، لأن الخصائص الداخلية لتكوينها ستقودنا حتماً إلى قراءة جديدة لتشكيلات خطية تصبح فيها أشكال بعض الحروف منظورة بصيغ ونهايات جديدة :رموز، طيور، فاكهة ملونة، أشجار ونبات ، صور فتيات راقصات، انما يقدم فيها شكلاً جديداً في التعبير، أشبه بومضات كونية، أو بتركيبة متفردة، تدفع بالمتلقي إلى التحليق إلى سماوات الأحلام، وأحياناً يختزل الجصاني العمل الفني إلى نقطة……. نقطة لا غير، تسبح في فضاء أبيض مؤطّر.
وإذا سلّمنا بالقول المنسوب للفنان بيكاسو( ضرورة مراجعة مصدر موثوق ) : أن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم، وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد، فإنما يذهب مرتضى بالمتلقي إلى جذب هذه الخيوط السحرية غير المنظورة في الخط العربي، بأمل التقرب بين كمال الحقيقة، الصافية، والبعد الفلسفي الجمالي للحرف العربي، على خطى ابن حيان حين يصف الخط كهندسة روحية ظهرت بآلة جسدية.
مرتضى غزير الإنتاج، له مشاركاته الواسعة في المعارض الفنية، الشخصية منها، والمشتركة، في الداخل والخارج، كما أختيرت أعماله كأغلفة لعدد من الكتب والمجلات، أو كنماذج تدريسية في بعض المدارس، وكانت تجربته موضوع بحث في الدراسات الجامعية العليا، وتحظى أعماله قبولاً لدى مقتني الأعمال الفنية في بلدان عربية وأجنبية. ومنجزه غني بالإبداع، والمخزون المعرفي، والمتابع لأعماله يجده مؤسساً لتجربة بعيدة عن اليومي، والجمود، إذ يفتح الذهن على شكل آخر من الواقع، فهو يلخّص لنا عالماً من الإنتماء إلى التجديد ومحيطه.
الجصاني متخصص بصياغة الجمال ليسمو به عن التقليد والتكرار والمألوف، فيقدم الموروث منطلقاً من فهمه ووعيه بطبيعة هذا الموروث، وفلسفته التي تكتسب مفرداتها وتكنيكها وعوالمها من خلال رؤيته لقضيته هو، بإمتزاجات تتكون عناصرها من الحرف وإيماءاته. في التشابك والتداخل، والتدوير ومرونة الحرف، مع البسط والإمتداد الأفقي والرأسي معاً، لقد جرّب مرتضى كل هذه المقوّمات التشكيلية للخط العربي، وأجاد فيها.
بهذا المنظور نستطيع القول ان الفنان الخطاط مرتضى الجصاني، أضاف شيئاً جديداً إلى بديعيات الفن الحروفي الباهر الجمال، هو وإن لم يبرح عمود (القاعدة).
