فلاح حكمت إسحق*

توصفُ أمريكا -في معرض الإبانة عن تعقيد العناصر المكوّنة لها وقصور رؤيتنا وتعاملنا معها كعالم عربي- بأنها غابة مشتبكة، وأننا نكتفي بالتعامل مع الجوانب العسكرية والمخابراتية لها ونتغافل عن الجوانب الأخرى فيها. نختزل الغابة ببعض أشجارها المزروعة في الحافات،هكذا يقالُ، وهو صائب إلى حد بعيد. أظنّ أنّ مثال الغابة الأمريكية غير المستكشفة يصلح معياراً للعديد من إشتغالاتنا الثقافية والمهنية، ومنها الترجمة. في الغالب نتعامل مع الترجمة كمهنة غير متطلبة أو مكلفة، وفي أحوال أخرى أفضل اعتباراً قد نراها مجموعة إعدادات تقنية تدورُ في مدار اللغة وحولها. هنا تكمنُ معضلة الترجمة والمترتبات الاشكالية على قصرها في النطاق المهني الضيّق باعتبارها ساحة صراع لغوي. الترجمة أكبر من ساحة إصطراعية لغوية.

                                       *****

   في أحد الاصياف من سنوات السبعينيات المبكرة وأنا أقرأ في عدد قديم من مجلة TIME الامريكية وقعت عيني على النص الاصلي للرسالة التاريخية التي أرسلها ألبرت آينشتاين صحبة صديقه القديم ليو زيلارد إلى الرئيس الامريكي فرانكلن روزفلت يحذّره فيها قبل بضعة أسابيع من بدء الحرب العالمية الثانية من إمكانية تطوير النازيين لسلاح خطير هو القنبلة الذرية. قرأتُ النص الاصلي للرسالة وكان مكتوباً بلغة إنكليزية عادية ميسّرة لم يكن صعباً فكُّ مغاليقها حتى على طالب عربي في الدراسة الثانوية لو كان يمتلك الشغف الكافي وقدراً مناسباً من الاعدادات اللغوية والتاريخية والثقافية المطلوبة. المرء في طور يفاعته (لنقُلْ بعض البشر حتى لا نقع في مصيدة التعميم المتبسّط) يمتلك الكثير من الحماسة للعمل والمعرفة، يُقابلها نقصٌ طبيعيٌ في عُدّة العمل وعناصر المعرفة. هذا هو السياق الطبيعي للتطوّر الثقافي، ثمّ يحصل تخفّف من جذوة الحماسة المتفجّرة في مقابل تعزيز عناصر المثاقفة حتى نبلغ طوراً يحصل فيه تسطيح لمنحني التطوّر حينما تتوازن جذوة الحماسة مع الارتقاء المعرفي.كشفتْ لي رسالة آينشتاين أمرين أساسيين: الأوّل، توجد درجات متفاوتة من الصعوبة تكتنف الفعالية الترجمية بحسب طبيعة الموضوع. لم أختلْ بنفسي طرباً إذ ترجمتُ رسالة آينشتاين؛ فهي كانت أقرب لرسالة لا تتعدّى نطاق قيمتها الاخبارية، ويمكن لبرامجيات الذكاء الاصطناعي الحالية أن تكتب رسائل إخبارية أفضل منها بكثير. المسرحيات الشكسبيرية ستقعُ على الطرف المقابل لرسالة آينشتاين لو شئنا الاشارة إلى صعوبة المادة الترجمية وانطوائها على تعقيدات بلاغية ودلالية تتجاوز القيمة الاخبارية. الامر الثاني أنّ الشغف بالمادة المترجمة والناجم عن معرفة مقبولة بها سيجعل الفعالية الترجمية لذّة ذهنية بدلاً من أن تكون عذاباً مُقيماً في تمهيد الطريق المناسب في غابة الترجمة.

   الشغف وحده لن يكفي بالطبع. هو دافعٌ أساسي للتطوّر والاستمرارية؛ لذا كان لا بدّ من البحث عن كتب مرجعية أساسية تتناول جوانب مختلفة للفعالية الترجمية. أظنّها مصادفةً جميلةً تلك التي أتاحت لي قراءة كتابيْن ممتازيْن ألّفهما الدكتور الراحل صفاء خلوصي وأحسبهما كانا مقرّريْن في قسم اللغة الانكليزية بكلية التربية بجامعة بغداد بداية ستينيات القرن العشرين؛ لأنّ إسم عمّي خريج هذه الكلية كان مكتوباً على الصفحة الاولى الداخلية من كلّ كتاب مُذيّلاً بتوقيعه، وقد انتهى بعد تخرّجه مدرساً عادياً للانكليزية مثل آلاف سواه ولم أعرف عنه يوماً أنه ترجم سطراً واحداً. الكتاب الاول جاء بعنوان (الترجمة التحليلية)؛ أما الكتاب الثاني فكان عنوانه (الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة). الكتابان رائعان بكلّ المقاييس؛ إذ أنّ المنهج المعتمد فيهما أبعد ما يكون عن المنهجية الكلاسيكية المملة أحادية الرؤية والاتجاه. التنوّع الترجمي هو العنوان الأجلى في الكتابيْن: ستقرأ ترجمة لآية قرآنية، يعقبها ترجمة لنونية (إبن زيدون): أضحى التنائي …..، ثمّ ترجمة فصل من (ألف ليلة وليلة) وهكذا مع بقية الكتاب. الترجمات مستلّة من أعاظم الترجمات الكلاسيكية المعروفة. لا يكتفي خلوصي بنقل الترجمات بل يروح يعلّق عليها تعليقات معمّقة شديدة الامتاع. يواصل خلوصي منهجه هذا في كتابه عن الترجمة المقارنة حدّ أنه يقدّمُ ترجمات لنصوص من المراسلات التجارية بالطريقة المسمّاة (الكتابة الاختزالية)، وكيفية كتابة نصوص الدعوات الرسمية للزواج، أو تقديم التأبين الرسمي للوفيات. جاء الكتابان هدية غير منتظرة لي؛ فكنتُ في أواخر دراستي الابتدائية أوفّرُ وقتاً يومياً لدراسة ثلاث صفحات -كمعدّل وسطي- من كلّ كتاب، ثم كنتُ أنتقلُ لقراءة أعمال مترجمة لكبراء المترجمين المعروفين حينذاك.كانت هذه التجربة ترتقي بي لأعلى مدارج الشغف العقلي والروحي: مزاوجة المعرفة التحليلية الدقيقة للترجمة بالابداع الترجمي المودع في كتب مخصوصة. لا بأس من الاشارة إلى أنّ الراحل خلوصي ربما جاءت بعض آرائه في سنواته المتقدمة شططاً غير مسوّغ ولم يكن له إليه حاجة متطلبة (على شاكلة تنسيب شكسبير إلى العرب وجعله شيخ زبير)؛ لكنّ هذا لم يكن ليقلّل مناسيب أهمية كتبه لديّ، ولم أزل مقتنعاً بضرورة إعادة طبع كتابيه طبعات جديدة. ظلّ خلوصي يكتب بطريقة منتظمة في مجلة (العربي) الكويتية من مستقرّه البريطاني، وكانت كتاباته فيها رفيعة جليلة لم تخلُ بعضها من تناول المعضلات الترجمية.

   فيما يخصُّ الترجمة الابداعية إلى العربية كنتُ أرى جبرا إبراهيم جبرا ملكها المتوّج عراقياً، ومنير البعلبكي ملكها المتوّج عربياً. كانت الكتب المترجمة المتاحة لي شحيحة أيام السبعينيات.كم تشهّيتُ قراءة رواية جبرا (صيّادون في شارع ضيق)، وكانت خيالاتي الجامحة تحدّثني أن أذهب لمنزله في شارع الاميرات بحيّ (المنصور) البغدادي الراقي وأطرق بابه وأقول له بكلام مباشر من غير التفاف أو مواربة: أستاذ، هل تسمح لي بترجمة روايتك (صيادون…) إلى العربية؟ زعلت كثيراً عندما عرفت بأنّ الدكتور محمّد عصفور، وهو مترجم ممتاز، ترجمها إلى العربية. قرأت معظم أعمال جبرا المترجمة وغير المترجمة ابتداءً من (ما قبل الفلسفة) لفرانكفورت وآخرين معه. يحقق جبرا مقايستي المشروطة: أن تكون متعدد الاشتغالات ولا تكتفي بحقل واحد تجعل معه الترجمة محض مهنة كغيرها من المهن. أظنّ أنّ جبرا أضاف لهذه المشروطية عنصراً إضافياً حينما قدّم مثالاً للارستقراطية العراقية الثقافية الناهضة التي كسرت مثال الارستقراطية المالية المستورثة من آباء وجدود قدّمت لهم المِلْكية العقارية (الارض وتوابعها من مشيّدات) مَدَداً مالياً قذف بهم للواجهة من غير جهد حقيقي. المثال الثاني،منير البعلبكي، جعلت منه ترجمته الحاذقة لرواية (الشيخ والبحر) لهمنغواي علماً مهماً في السوق التجارية؛ لكنّ تصنيفه لقاموس المورد كان بصمته الأعظم الكافية لجعله مُقرّباً لنطاق مَنْ أحب من المترجمين العرب.

   انقضت عقود عدّة منذ عهد السبعينيات من القرن العشرين، ودلفنا عصر التقنيات الرقمية التي أبدلت الشحّة الطاغية وفرة عميمة. الوفرة بَرَكة بموجب كلّ الاعتبارات ولو أنّ بعض طبائع البشر يكمنُ في أنّ كلّ ما تستطيع بلوغه بيسر من غير مشقّة ربما لن تصنع منه ما كنت ستصنعه في عهد الشحة. من الاعتبارات شديدة الاهمية أن لا نجعل الوفرة واستطاعة الوصول إلى ما نريد من المنشورات من غير تكلفة مالية أو ذهنية تقتلُ شغفنا وتُميتُ جذوة الحركة والفعل فينا. لعلّني لو أردتُ الإشارة إلى مثابة ترجمية معاصرة فسأختارُ الدكتور محمد عناني لكثرة مترجماته وتنوّع اشتغالاته وغنى تجربته الحياتية والفكرية. رحل عناني باكورة عام 2023 بعد أن نشر سيرته الذاتية (الواحات) في سلسلة رباعية (واحات العمر، واحات الغربة، واحات مصرية، حكايات الواحات). هذه الواحات-السيرة الذاتية في غاية الامتاع لإنها تكشف عن تداخل نادر بين الابداع والمعيش اليومي حدّ أن تتعشق المهنة في تضاعيف هذا المعيش ولا تنكفئ إلى اشتغال نرميه عند قارعة باب المنزل عندما نعود من العمل. المهنة التي نتخلى عنها خارج أبواب منازلنا لا يمكن أن تكون مادة لإبداعنا. هي ليست أكثر من وسيلة لتحصيل المال اللازم للعيش ولا أكثر من هذا. الجزء الثاني من سيرة عناني (واحات الغربة) يحكي فيها عن سنوات دراسته العليا وحصوله على الدكتوراه، والمثيرُ فيها ابتعادُها عن سياقات الدراسة التقليدية وانفتاحها على ثقافات وعلاقات وممارسات جديدة أفضت إلى تجديد العقل القديم وإعادة ترتيب سياقاته الثقافية وطرائق عيشه وتعاطيه مع الآخر. ربما كانت تجربة الترجمة الفورية في ال BBC وبعض المؤتمرات العالمية المعقودة في بريطانيا وخارجها، وكذلك تجربة التعامل مع دور النشر البريطانية بعضاً من أثرى التجارب التي أفاض بها عناني وأشبعها شرحاً وتأكيداً مستحقاً في سيرته الذاتية. يمكنُ للقارئ الشغوف مراجعة موقع hindawi.org الالكتروني لقراءة مجانية للسيرة الذاتية لعناني فضلاً عن قائمة طويلة من كتبه المترجمة والمؤلفة.

   يوجد بالتأكيد مترجمون حاذقون عرب في حقول معرفية عديدة وبلغات متعدّدة؛ لكنْ تقودهم واحدية الاشتغال والنطاق، وهذه ليست مثالب أبداً. أنا أحبّ التنوّع كذائقة ترجمية شخصية، ومن البدهي أن يتناغم المرء مع نظائره في الذائقة. أعجبني في السنوات القليلة الماضية المترجم الليبي (مأمون الزائدي) الذي يُبدي في ترجماته تنوّعاً بيّناً وولعاً بالمستجدات العلمية وشغفاً متوازناً بين الاشتغالات العلمية والادبية، وقد صنع فضيلة كبرى -كما أحسب- إذ أقدم على ترجمة كتاب (النظرة النُظُمية إلى الحياة: رؤية موحِّدة The Systems View of Life:A Unifying Vision) للفيزيائي وفيلسوف العلم فريتجوف كابرا Fritjof Capra. مِثْلُ هذه الكتب لن يُقْدِمَ على ترجمتها سوى مَنْ شَغَفَ بمفهوم النُظُم الدينامية المعقدة والفوضوية Chaotic Complex Dynamic Systems وهي التي صارت تشكل حجر الزاوية في الرؤية العلمية المعاصرة، وهذا ما يتطلب قراءات موسّعة في تاريخ العلم والسير الذاتية للعلماء. مترجمُ هذا العمل ذاته هو مَنْ ترجم قبل بضع سنوات عملاً في غاية الاهمية عنوانه(علمُ رواية القصص The Science of Storytelling ) لمؤلفه ول ستور Will Storr، وهو عمل أحسبه مرجعياً لكلّ روائي أو مشتغل بنطاق الدراسات السردية لأنه يكشف لنا أهمية السرد في حياتنا من وجهة نظر العلوم العصبية ونظرية العقل الفلسفية وضرورة الاطلالة الميتافيزيقية على الحياة حتى لا نضيع في لجتها المميتة، كذلك قدّم لنا المترجم ترجمات رصينة لروايات وشعر وسيرة شعرية للكاتبة (آن كارسون). إنها أكذوبة (أو في الاقل أخدوعةٌ) تلك التي تسعى لترويج وجود هوة عميقة بين العقل العلمي والأدبي. هذه محضُ قناعات نجمت عن مواضعات رسختها التجربة المدرسية الفقيرة وأنماط التعليم البائسة والتفاوت في المداخيل بين المهن العلمية وغير العلمية. لستُ أسعى إلى الترويج لكتاب أو مترجم. أتحدّث في سياق الكشف عن أنّ الترجمة مثاقفة وتنوّع في الخريطة الذهنية.

                                       *****

   سيكون من المناسب في هذه الإطلالة الترجمية الإشارةُ إلى موضوعات مخصوصة بشأن الترجمة، يكون فيها التأثير مباشراً أو يدور في مدارات قريبة من الاشتغالات الترجمية:

موضوعة الفردانية: الترجمة عمل يختصُّ بفردانية مميزة لا يمكن مبادلتها أو مقايضتُها بعمل الفريق. هذه الخصيصة الفردانية تجعل الترجمة عملاً سائغاً لبعض العقول التي لن تطرح ثمارها الطيبة إلا في نطاق محدّد المعالم من الفردانية الصارمة. المترجمون البارعون لا يطيقون في العادة التراتبيات الهيكلية المعاصرة لصيغ العمل في النطاق المؤسساتي إلا في أقلّ الحدود اللازمة للإيفاء بمتطلبات تحصيل العيش،ولعلّ مهنة التعليم ما قبل الجامعي والجامعي هي الأقرب للإيفاء بإشتراطات الفردانية للمترجم المنصرف لعمله بشغف ومثابرة.

موضوعة التعددية الثقافية: قلت سابقاً أنّ الترجمة عمليةُ مثاقفةٍ أكثر من كونها تحصلاً لمهارات لغوية، ربما لهذا السبب سيجد المترجم عن الإسبانية ذاته تسلك سلوكاً طبيعياً تلقائياً عندما يجد نفسه في بيئة إسبانية الثقافة. من مستتبعات هذه التعددية الثقافية المتصلة بالترجمة أن تصبح الترجمة إحدى وسائلنا في تعزيز ثقافة فهم الآخر وترسيخ روح التسامح لا كشعار آيديولوجي فلكلوري بل كتدريب ذهني لن ينهزم إزاء الشعارات عالية الضجيج والغارقة في النكوص الثقافي.

موضوعة التأهيل الاكاديمي للمترجم: قد نتوقعُ أنّ المترجم الحاذق يجب أن يكون خريج قسم الترجمة أو خريج أحد أقسام اللغات. هذا هو المسار الطبيعي المتوقّع، وهو يمكن أن يؤدّي لنتائج طيبة لو ترافق مع الشغف وابتعد عن القسر على دراسة منهج أكاديمي لا يلقى له المرء هوى في نفسه. لكنْ لا بأس من الإشارة إلى أنّ الدراسة الأكاديمية أحياناً -أؤكّد أحياناً- قد تكون سبباً في قتل البذرة الإبداعية ما لم يمتلك المرء جَلَداً وشغفاً بدراسته.

موضوعة كم تترجم ممّا تقرأ: أظنّ أنّ المترجم الحاذق يجب أن يقرأ أضعافاً مضاعفة ممّا يترجم. هذا قانون له مسوغاته، وربما تتراوح النسبة بين المترجَمِ إلى المقروء إلى الواحد بالمائة، هذا إذا استثنينا حالتين: الترجمة بالتكليف المسبق حيث لا يكون للمترجم دورٌ في تحديد ما يُترجم، وكذلك في الحالات التي يكون فيها المترجم غارقاً في تخصصه حدّ أنه قلّما يقرأ خارج نطاقه التخصصي.

التسويغ يأتينا من نظرية الاحتمالات: لو ترجمت معظم ما تقرأ فهذا يعني أنّ مقروءاتك قليلة حدّ أنك لا تملك رفاهية المفاضلة بين ما هو الأفضل للترجمة بينها. عندما يقرأ المترجم كثيراً فهذا معناه إتاحة الفرصة له بصورة طبيعية ليمتلك الكثير من إمكانية المفاضلة بين الأكثر صلاحاً للترجمة بين الصالح من المواد المتاحة. يجب أن لا ننسى أيضاً أن ليست كل الموضوعات التي نقرأها تصلح للترجمة بسبب موانع ومصدّات كثيرة، وليس من المنصف بحقّ أنفسنا أن نقمع رغبتنا في قراءة مواد محدّدة لمحض كونها غير صالحة للترجمة. ثمة دوماً ما نقرأه لمتعتنا الذاتية فحسب ولا نرغب في أن نكون -لأسباب عديدة- وسيلة لمشاركة الآخرين به.

موضوعة الانضباط في الترجمة: كل عمل جاد يتطلب انضباطاً وبخاصة عندما يصبح مهنة. الانضباط يخلق الاستمرارية ومواصلة العمل، ولو تخلفنا يوماً عن العمل فسنشعر بثقل ذلك اليوم على أرواحنا. كم يمكن أن يترجم المرء في اليوم ترجمة مقبولة من جميع الأوجه؟ أظنُّ أنّ حدّ الثلاثة آلاف كلمة الذي إعتمده الروائي هاروكي موراكامي في عمله الروائي اليومي يمكن إعتماده في الترجمة؛ لكن ليس له مسوّغ يتّسمُ بالمعقولية. ربما الحد الأكثر عمليةً هو ألف كلمة في اليوم لخمسة أيام في الأسبوع. يكافئ هذا المعيار حدود العشرين ألف كلمة في الشهر، وربع مليون كلمة في السنة. الربع مليون كلمة في السنة قد تكون ثلاثة أو أربعة كتب، أو ربما كتابيْن مرجعييْن (على شاكلة مقدمات كامبردج في الأدب أو الفلسفة أو العلم) سيعتمدهما آلاف القرّاء في العالم العربي. هذا ما يمكن أن تصنعه ألف كلمة مترجمة في اليوم. هل فكّرنا في هذا؟ الوقت المتبقي يمكن أن ينصرف فيه المترجم للقراءة المؤجلة أو المعمّقة أو الخاصة بخدمة العمل قيد الترجمة وتدعيمه بتفاصيل إضافية.

موضوعة أنّ الترجمة أكبر من مهنة تقليدية: كتبتُ سابقاً أنّ المهنة التقليدية ستغادرك عند عتبة الباب الخارجي وأنت تدلف منزلك. ليست الترجمة ممّا تنتزعه خارج المنزل. إنها ماكثة في  الدوائر العصبية لدماغك، وهذه الخصيصة تجمعُ تحت لوائها كلّ الاشتغالات الموسومة بالشغف. عندما يعترضك نصّ بلغة غير لغتك الأم (عندما تشاهد فلماً سينمائياً مثلاً) سترى نفسك مندفعة لترجمة هذا النص بكيفية تلقائية. هذا الفعل التلقائي له قدرةُ جعل الدماغ البشري منشغلاً بأداء فعاليات تسلسلية من شأنها حمايته من حالات التراجع الوظيفي مع التقدم في العمر (ألزهايمر في مقدّمتها).الموسيقى والرياضيات مثلاً تتشاركان مع الترجمة في هذه المقدرة الفريدة.

                                        *****

   يقال في بعض مأثوراتنا المتداولة “سعيدٌ من كانت هوايته هي مهنته”. تلك حقيقة مؤكّدة معزّزة بتجارب مختبرة. أظنّ أنّ الترجمة تصلح مثالاُ معيارياً لقدرة هواية نبيلة على الارتقاء بحياتنا لتكون أكثر من مهنة يعتاش عليها بعضنا. إنها في التوصيف المختصر تجربة عيش ترحّل دائم بين اللغات والثقافات، وقبل هذا في عقول هي عقولنا التي سيتاح لها رؤية هذا العالم بعيون جديدة كلّ بضع سنوات.

*  كاتب ومهندس عراقي