
الجزء الأول من حوار الأديبة والمترجمة والأكاديمية باهرة عبد اللطيف مع الكاتب والباحث د. أسامة غالي (كتاب محاورات 2023):
س: في الاستشراق، كيف تقيم لنا الكاتبة باهرة عبد اللطيف نظرة الآخر المختلف للثقافة العربيّة؟
– الاستشراق عالم واسع جداً ومعقد ارتبط بالفكر الغربي ومؤسساته ومصالحه وسياساته القائمة على رؤيته للشرق العربي والإسلام على وجه الخصوص، ويحتاج إلى متابعة دقيقة ومعرفة بلغات وثقافات عدة. وأكثر ما يثير استغرابي هو جرأة البعض من الكتاب العرب على إطلاق الأحكام الجاهزة القديمة والمكرورة، متعكزين في هذا على معلومات ومصادر قليلة لكتب عربية وأخرى مترجمة يتداولها الجميع كمسلمات. والمشكلة -كما أرى- تكمن في عدم إجادة اللغات الرئيسية التي يسطر بها المستشرقون الغربيون مؤلفاتهم (الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية…إلخ) والاعتماد على ترجمة عمل من هنا وآخر من هناك، بلا منهجية ولا ترتيب زمني، لأنها أولاً واخيراً مهمة المؤسسات العربية لا الأفراد.
والاستشراق الذي درسه المفكر الراحل أدوارد سعيد وأُطلق عليه مصطلح الاستشراق القديم، تحدث عن حمولاته السلبية القائمة على المركزية الأوروبية والتعامل مع الآخر (العربي المسلم، ودينه وثقافته) بوصفه نموذجاً غرائبياً ولد من صنع خياله وقد وظّفه لخدمة النموذج الغربي الأعلى، عبر تكريس صورة نمطية دونية لهذا الآخر بما يسوغ الاحتلالات الاستعمارية (فرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص) ويشرّع استخدام القوة والقمع المبرَّر للقوى العربية-الإسلامية المقاومة للاحتلال. لذا كانت المؤسسات الاستشراقية مراكز تابعة للدوائر الرسمية الاستعمارية والاستخبارية -وما زالت كذلك في بعض البلدان- وكان يكفي أن يتخصص الباحث باللغة العربية في مراكز الدراسات الشرقية كي يصبح مستشرقاً.
أما الاستشراق الجديد الذي تجلت معالمه منذ منتصف القرن الماضي وتبلورت في العقدين الأولين من قرننا الحادي والعشرين فقد أصبح أكثر تخصصاً، أي لم يعد كافياً التخصص فقط في اللغة العربية وعلومها بل باتت المراكز العلمية من جامعات وبحوث ومؤسسات بحثية (بريئة أم غير بريئة) تتخصص في كل جوانب المعرفة، من علوم اللغة والدين والاقتصاد والتاريخ والاجتماع والانثربولوجيا وكافة حقول المعرفة المتعلقة بشرقنا العربي الإسلامي.
وهنا لا ننسى أن الحربين العالميتين غيّرتا من الفكر الغربي المتعالي وأجبرتاه على مراجعة أفكاره عن نفسه وعن الآخر، خاصة مع انطلاق حركات التحرر من الاستعمار في البلاد العربية ومع اكتشاف الأهمية المتعاظمة للبترول والغاز في مجال الطاقة التي يفتقدها الغرب ويحتاج إليها لإدامة رفاهيته وتفوقه. وبهذا تغيرت معادلة “الآخر التابع”، الخاضع، وفقاً لنظرية الاستبداد الشرقي، ليغدو قوة سياسية واقتصادية متنامية في وجه الغرب.
ويمكننا القول إن استشراق القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان استشراقاً فكرياً تبشيرياً دينياً، ثم تحول إلى استشراق قومي سياسي في أواسط القرن العشرين على يد الأمريكان الذين برزوا كقوة صاعدة بانتهاء الحرب العالمية الثانية. وبحكم افتقادهم خبرات الإنجليز والفرنسيين في شؤون العالمين العربي والإسلامي، فقد قرروا إرساء نهج “دراسات المناطق”، وذلك من خلال تشكيل وحدات بحثية تضم مختلف التخصصات في منطقة واحدة من العالم. هذا التغيير أحدث تحولاً كبيراً في الدراسات الاستشراقية التقليدية التي كانت تنظر إلى حضارات الشرق بوصفها ساكنة غير قابلة للتغيير، وجعل البحوث أكثر ديناميكية ومواكبةً للتغيرات التي تحدث في عالمنا العربي-الإسلامي، وهكذا توجّه الاستشراق للإستفادة منها في عالمي السياسة والاقتصاد الأمريكي، والغربي بوجه عام.
أما القرن الحادي والعشرون وحروب الغرب واحتلالاته -أفغانستان والعراق- بذريعة محاربة الإرهاب الجهادي، فقد شرّعت عهداً جديداً للاستشراقيْن: القديم التقليدي، المعادي للإسلام الذي مثله برنارد لويس وأتباعه وطروحاته وتأثيراتها في سياق نظرية تصادم الحضارات التي تبنتها إدارة بوش وحكومة المحافظين الجدد، والاستشراق الجديد-المُطَعّم (التوصيف خاص بي) الذي بات لا يقتصر على المستشرقين الغربيين بل يسهم فيه “مثقفون” عرب ممن يتخادمون معهم ويسهلون مهمتهم.
هذا النوع من “المستشرقين العرب” تطوع لإهانة وإدانة العرب والفلسطينيين، وأصحابه لا يتورعون عن دعم الصهاينة وجمع التبرعات لكيانهم الغاصب. من نماذجه الكاتب والأكاديمي اللبناني فؤاد عجمي الذي فاق بوش والمحافظين الجدد حماسةً لغزو العراق والذي يرى في “الشيعة انتحاريين وفي السنة قتلة”!.
الحديث عن هذا النوع يحتاج إلى تسويد عشرات الصفحات بعد أن بات هؤلاء لا يقتصرون على مراكز الفكر الأمريكية ووهيئاتها السياسية والأكاديمية بل انتقل إلى بعض عواصم البلاد العربية ودوائرها الثقافية الرثة بكل وقاحة وصلف.
لا يفوتني هنا التذكير بكتاب السيوسيولوجي الأمريكي اليهودي رافائيل باتاي وكتابه العنصري الذي لم يدعْ فيه فضيلة للعرب إلا وأحالها إلى رذيلة وأهجية، بما في ذلك لغتهم العربية ودينهم وعاداتهم وتقاليدهم. فقد انتشر هذا الكتاب إبان غزو القوات الانغلو-أمريكية العراق، وقد أكدت اعترافات سجّاني معتقل (أبو غريب) أن استخدامهم أساليب الامتهان الجنسي في تعذيب السجناء العراقيين كان يرتكز إلى قراءتهم كتاب “العقل العربي” المقرّرة قراءته على الوحدات العسكرية في عملية الغزو الأمريكي التي أطلقوا عليها اسم (حرية العراق!).
أعود لأقول عن أي استشراق نتحدث؟ هل نتحدث عن الاستشراق التقليدي أم الحديث أم المعاصر؟ عن أي مرحلة منه؟ وعن أي مدرسة، فهناك مدارس عدة بحسب المطامع الاستعمارية والمصالح؟
نعم لقد مرت حركة الاستشراق بمراحل مختلفة وتعرضت لانتقادات ومراجعات وغيرت من مساراتها وأعادت صياغة أهدافها، مع ذلك ما زالت في بعض بلدان الغرب تنشط في خدمة السياسة الأمبريالية. لذا لا يمكن إطلاق رأي ما على عواهنه في مثل هذه العجالة.
ولكن… ثمة كلمة لا بد منها في هذا السياق:
على الرغم من التحفظ المشروع على الدور الذي قامت به حركة الاستشراق، علينا أن نقرّ بإنجازات مهمة قام بها بعض المستشرقين ممن أسدوا خدمات جليلة للتراثين العربي والإسلامي ببحوثهم ودراساتهم الجادة وتحقيقاتهم وشروحاتهم ومعاجمهم التي تعاملت بتقدير واحترام مع تراثنا. وهذا النهج أيضاً ما زال موجوداً حتى اليوم، وثمة إسهامات مهمة قدمتها مدارس الاستشراق ذات النهج المعرفي، ومن بينها حركة الاستعراب الإسباني الحالي، أو حتى الاستشراق الألماني (بعد أن أدركت ألمانيا عدم قدرتها على التغلغل الاستعماري في المنطقة) .
