
الجزء الثاني من حوار الأديبة والمترجمة والأكاديمية باهرة عبد اللطيف مع الكاتب والباحث د. أسامة غالي (كتاب محاورات 2023):
الترجمة بوصفها تثاقفاً، هل تفيد الثقافة الأخرى، الإسبانية تحديداً، من الثقافة العربية الحديثة عبر الترجمة؟
أود أن أنوه إلى أن مصطلح “المثاقفة” أو “التثاقف” ينطوي على حمولات إيجابية وسلبية في آن واحد. إيجابية، عندما تكون هناك ندية بين الطرف المؤثّر والطرف المتلقي للتأثير، وسلبية حين تكون هناك فوقية أو لا ندية ثقافية بين الطرفين، وهو ما نجده في حالات الهيمنة الاستعمارية للشعوب وفرض حمولاتها اللغوية والثقافية عليها، الأمر الذي يقود إلى ضياع مكونات الهوية الأصلية الوطنية أو القومية، وأولها اللغة.
من السطور السابقة أود القول إني شخصياً لا أميل إلى هذا المصطلح لأنه يموه حقيقة العلاقة بين الأطراف باسم التأثير الثقافي أو التلاقح الثقافي، ومن خلال إقامتي في إسبانيا وقراءاتي وجدت أنها تحمل المفهوم السلبي -وفقاً للرؤية الغربية- وإنها إنما تشير إلى نوع من “علاقة بين ثقافة متفوقة وثقافة متخلفة” وهي علاقة مختلة تفضي إلى تبرير أنواع التدخل العسكري والاحتلال والتسلط الاستعماري، كما حدث في الغزو الأمريكي للعراق بحجة نشر الديمقراطية.
لذا فالأفضل -من وجهة نظري- هو استخدام مصطلح “التفاعل الثقافي” الذي يقوم على مبدأ عدم وجود ثقافة أعلى أو أفضل من الأخرى. ومن هنا فالتأثير يكون من خلال عملية التفاعل الثقافي بين المجتمعات بما يحفظ لكل واحد منها سماته وخصوصياته.
من هنا فقد كانت عملية “المثاقفة” بمعناها الإيجابي بالنسبة لنا -والسلبي لبعض الإسبان وليس كلهم- قائمة فعلاً عندما كانت أجزاء كبيرة من إسبانيا خاضعة للنفوذ الثقافي العربي، واللغوي أيضاً في مناطق الأندلس تحديداً، حتى إن الإسبان المسيحيين أنفسهم كانوا يتعلمون العربية ويتقنونها ويكتبون بها لأنها لغة الثقافة والعلم آنذاك. وبقي لهذا التأثير الثقافي العربي آثاراً إيجابية، وإعجاباً لدى بعض الإسبان، من الباحثين والأكاديميين الموضوعيين، لأنها كانت ثقافة وافدة متقدمة، غريبة حقاً لكنها متطورة أثرت الواقع الإسباني.
كما أنها ثقافة لم تفرض دينها ولغتها على الإسبان على مدى فترة الحكم العربي الإسلامي من عام 711م حتى 1492م، بل شهدت تصاهراً وتعايشاً بين فئات المجتمع الأندلسي من مسلمين ومسيحيين ويهود، في مثال ندر وجوده في تاريخ الغرب، مقارنة بالثقافة المحلية المتخلفة والمتزمتة دينياً في تلك القرون، المتمثلة بتسلط محاكم التفتيش على الحياة العامة واضطهاد واجتثاث الآخر المختلف في الدين والعقيدة.
ولهذا فقد كانت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية سبباً في التلاقح الثقافي بين الشرق وأوروبا عبر حركة الترجمة التي أطلق عليها بـ”مدرسة طليطلة” التي نقلت تراث الحضارة العربية الأندلسية وما تراكم فيها من مؤلفات كبار فلاسفة وعلماء وأدباء الأندلس، مضافاً إليها ما نقل من إنجازات حركة الترجمة في العاصمة العبَّاسية بغداد في ترجمة العلوم اليونانيَّة والفارسيَّة والهنديَّة وصهرها في بوتقة الفكر العربي الإسلامي التي حرص خلفاء وأمراء الأندلس على نقلها من بغداد.
ومدرسة طليطلة لم تكن مدرسة قائمة بالمعنى المادي للكلمة، بل كانت حركة ثقافية انخرط فيها مسلمون ومسيحيون ويهود من شتى الأعراق، تمثّل مسعاها الأساس في ترجمة علوم الحضارة الإسلامية كالطب والفلك والفلسفة والرياضيات، من بين علوم أخرى.
وقد بدأت هذه الحركة في القرن الثاني عشر الميلادي على يد رئيس أساقفة طليطلة رايموند، وبلغت شوطاً كبيراً في القرن الثالث عشر على يد الملك القشتالي الفونسو العاشر الملقب بالحكيم أو العالم واستمرت حتى القرن السادس عشر. وكانت الجهود تتركز في نقل العلوم من اللغة العربية إلى الإسبانية القديمة ومنها إلى اللاتينية. وهكذا ترجمت في العصور الوسطى الكثير من المؤلفات العربية في شتى العلوم وصنوف المعرفة (الطب، الجبر، الفلك، الكيمياء، الزراعة، الأدب الفلسفة…). وانتقلت مؤلفات ابن رشد وابن خلدون وابن طفيل وابن حزم وابن عربي وعشرات الأعلام من الأندلس والمشرق والمغرب العربي إلى الغرب.
ثم تعددت مراكز ترجمة العلوم العربية وفلسفة الإغريق، ولم تعد تقتصر على طليطلة، بل امتدت حركة الترجمة إلى قطالونيا في إسبانيا، وباريس ومونبلييه وتولوز في فرنسا، وكذلك مراكز أخرى أنغلوساكسونية، وأصبحت الترجمة لا تقتصر على اللاتينية فقط بل تعدتها إلى لغات أخرى غربية، وانتقلت المجتمعات الأوروبية من مرحلة الترجمة إلى التأليف الأولي سواء شرحاً للترجمات أو نقلاً أو تقليداً أو تلخيصاً لها، ثم تخطتها إلى مرحلة الابتكار والانطلاق في شتى المجالات مع حلول عصر النهضة.
الجدير بالذكر إن الغرب الأوروبي استفاد كثيراً من هذا الإرث المعرفي المتمثل بعلوم العرب والمسلمين وما حملوه من تراث الأمم الأخرى في بلوغ عصر النهضة. وحتى اللغة الإسبانية هي الأخرى تطورت وتأسست من خلال هذه العملية التلاقحية الثقافية، إذ ما زالت حتى اليوم تضم أكثر من أربعة آلاف كلمة عربية، ناهيك عن الحكم والأمثال أو التعبيرات اللغوية العربية وأسماء الأمكنة والقرى والجبال والأنهار، على الرغم من ملاحقة محاكم التفتيش لها ومحاولة اجتثاثها التي امتدت قروناً.
