لعبت الترجمة مكتوبة ام شفاهية دورا حيويا فى التواصل بين البشر على مر التاريخ. لكن لم تبدأ دراسة الترجمة كمبحث اكاديمى الا فى النصف الثانى من القرن العشرين و يرجع الفضل إلى الباحث الامريكى جيمس هومز فى اطلاق اسم “دراسات الترجمة”  Translation Studiesعلى هذا المبحث فى بحث القاه  فى مؤتمر كوبنهاجن للغويات التطبيقية عام 1972 و الذى لم يعرف على نطاق واسع الا فى عام 1988. فى ذات العام كتبت مارى سنيل هورنبى فى تمهيد كتابها  Translation Studies: An Integrated Approach(دراسات الترجمة: مدخل متكامل) “تأتى الدعوة إلى النظر فى دراسات الترجمة باعتبارها مبحث مستقل من أوساط عديدة فى السنوات الأخيرة” [i]و مع صدور الطبعة الثانية من الكتاب عام 1995 تحول الحديث إلى “الطفرة المذهلة فى دراسات الترجمة و النقاش الوفير الدائر حولها عالميا” [ii]و هو ما أشارت اليه منى بيكر فى مقدمة الطبعة الأولى من موسوعة راتلدج للترجمة (1998) بحديثها عن “ثراء المبحث الجديد المثير للاهتمام و الذى يغدو ان يكون مبحث تسعينيات القرن العشرين الذى يسهم فيه باحثون ينتمون لمباحث عديدة رسخت من زمن”[iii] . و تبدى هذا الاهتمام كما يوضح كامينيد و بم (1995)[iv] فى منح درجات جامعية فى الترجمة على مستوى المرحلة الجامعية الأولى و مرحلة الدراسات العليا فيما لا يقل عن 250 جامعة فى ستين دولة و نشأة مراكز تابعة للجامعات تعنى بتدريس الترجمة و فى المؤتمرات العلمية و الكتب و الدوريات الاكاديمية و كذلك المنظمات الدولية التى تضم فى عضويتها المشتغلين بالترجمة و الباحثين الأكاديميين و كلها تتابع تطورات المبحث الذى يزداد نضجا يوما بعد يوم.

الترجمة: بداية تاريخية

ظلت الترجمة حتى النصف الثانى من القرن العشرين حبيسة ما اطلق عليه جورج شتاينرفى كتابه After Babel ( بعد بابل) ” الجدل العقيم الدائر حول ثلاثية الترجمة الحرفية و الحرة و الأمينة”[v]. و يرجع التفريق بين الترجمة الحرفية أو كلمة مقابل كلمة و الترجمة الحرة أو معنى مقابل معنى إلى شيشرون فى القرن الأول الميلادى و القديس جيروم فى القرن الرابع الميلادى حيث اجمل شيشرون مذهبه فى الترجمة فى مقدمة كتابه De optimo genere oratrum[vi] الذى اعيدت طباعته عام 1960 و ترجم فيه خطب خطيبى اتيكا اسخينوس و ديموسثينوس: 

لم اترجمهم كمفسر و لكنى ترجمتهم كخطيب و حافظت على نفس الأفكار و الصيغ أو كما يمكن ان اقول صور الأفكار فى لغة تتماشى مع استخدامنا لها و على هذا لم ارى داعيا لترجمة كلمة بكلمة لكنى حافظت على السمات العامة للأسلوب و قوة اللغة.

و كما يتضح من كلمات شيشرون ان المفسر فى مفهومه هو المترجم الحرفى أما الخطيب فهو من يهدف من كلامه إلى النأثير فى السامعين. و كان مذهب الترجمة الحرفية عند الرومان يقتضى ابدال كل كلمة فى النص المصدر (اليونانى بالأحرى) بمثيلتها  من اللاتينية مع الالتزام بالصيغة النحوية و ذلك لأن الرومان كانوا يقرأون النص المترجم إلى اللاتينية جنبا إلى جنب مع النص اليونانى. و كان رفض شيشرون لمذهب الترجمة الحرفية و رفض هوراس له فى كتابهِ Ars Poetica (فن الشعر) و تأكيد الأخير على اخراج نص مترجم يحمل قيمة جمالية و يتسم بالابداع تأثيره على ممارسة الترجمة فى القرون التالية. و اعتمد على ذات المذهب القديس جيروم فى ترجمته للكتاب المقدس بناء على طلب داماسوس اسقف روما فقام بمراجعة و تصحيح الترجمات اللاتينية السابقة للعهد الجديد و عاد إلى الأصل العبرى فى ترجمته للعهد القديم و هو ما أثار جدلا بين من يؤمنون بقدسية الكتاب المقدس السبعينى اليونانى. و يجمل القديس جيروم مذهبه فى الترجمة فى الفقرة التالية من خطابه إلى صديقه باماكيوس عضو مجلس الشيوخ الرومانى الذى يدفع فيه الاتهامات الموجهة اليه بالتحريف و عدم الدقة:

اقر بل و اعلنها بكل وضوح انى لا اترجم عن اليونانية كلمة مقابل كلمة بل معنى مقابل معنى إلا فى حالة واحدة وهى المواضع التى يلتبس فيها التركيب[vii].


[i] Snell-Hornby, M.(1988) Translation Studies: An Integrated Approach, Amesterdam and Philadelphia, PA: John Benjamins,(preface)

[ii] Snell-Hornby, M.(revised 1995) Translation Studies: An Integrated Approach. Amesterdam and Philadelphia, PA: John Benjamins,(preface)

[iii]Baker, M. (ed.)(1998) The Routledge Encyclopedia of Translation Studies, London and New York:Routledge

[iv] Caminade, M. and A. Pym (1995) Les Formations en Traduction et Interprétation. Essai de recensement Mondial, special issue of Traduire, Paris: Societe francaise des Traducteurs

[v] Steiner, G. (1998) After Babel: Aspects of Language and Translation, London, Oxford and New York: Oxford University Press p.319

[vi] Cicero, M. (46 BCE/ 1960 CE) ‘De Optimo Genere Oratrum’ in Cicero De Inventio, De Optimo Genere Oratrum, Topica, translated H.M. Hubbell, Cambridge, MA: Harvard University Press; London: Heinemann,p.364

[vii] Robinson, D. (ed.) (1997) Western Translation Theory from Herodotus to Nietzsche, Manchester: St Jerome, p.25