قراءة في مقدمة سارتر لـ ’’معذبو الأرض‘‘

’’أيها الأوربي، إنني أسرق كتاب عدو،

 فأتخذه وسيلة لشفاء أوربا من دائها.‘‘

                                  سارتر

طارق النعمان 

لقد كان على سكان البلاد المُسْتَعْمَرة الأصليين، فيما يرويه لنا جان بول سارتر في مقدمته لكتاب ’’معذبو الأرض‘‘ لفرانز فانون، أن يُحِبُّوا عواصمَ المُسْتَعْمِرين كما يُحبِون أمهاتِهم. (انظر معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال أتاسي، ص19) وهو تشبيه لا يخلو ضمن دلالاته العديدة من إيماءات تُحيل بصورة ما على نوع من التبعية، وربما الطفولة، والثقة في الأم والحاجة إلى الحماية، فضلاً عن علاقة أليفة داجنة ناعمة مُحِبة، تحظى فيها الأم، إلى جانب الحب، بما قد تنطوي عليه مزايا وعطايا الأمومة من طاعة واحترام وإجلال من الأبناء لأمهاتهم، لقد كانت إذًا علاقة قوامُها البِر، وكأن المُسْتَعْمَرين هنا كانوا يؤمنون، كل على طريقته، أن الجنة تحت أقدام مُسْتَعْمِريهم، أو أن مُسْتَعْمِريهم يملكون مفاتيحها؛ ومن ثم كان عليهم أن يكونوا أبناء بررة. وهو يصف لنا كيف استطاعت الصفوات الأوربية المُسْتَعْمِرة أن تصطنع لها صفوة من هؤلاء السكان الأصليين، صفوة مُصْطَنعة ومصنوعة على عينها، فتيانًا مراهقين تصطفيهم تُدخلهم جنتها لفترة وجيزة؛ ثم تردهم مرة أخرى إلى الأرض، ليبقى حلم العودة أو خلق جنة على غرار جنة الأم عالقًا ومُخايلاً على الدوام. لقد كانت ’’ترسم على جِباهِهم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوربية، وتحشو أفواههم بأشياء رنَّانة، بكلمات كبيرة لزجة تلتصق بالأسنان، ثم تردهم إلى ديارهم بعد إقامة قصيرة في العاصمة‘‘ (المرجع السابق، ص 20) ليتحولوا، على حد وصف سارتر، إلى أكاذيبَ حيَّةٍ تسعى. إلا أن هذا فيما يرى سارتر لم يكن سوى مجرد مرحلة، إذ أخذ التابع ينهض، وينتهي ذلك العهد وإذا بالأفواه تنفتح من تلقاء ذاتها لتتحدث عن نزعة المُسْتَعْمِر الإنسانية، لكنها تتحدث عن نزعته الإنسانية لا لتشيد به وتمتدحه ولكن لتصدم خطاب قوله بخطاب أفعاله وسلوكه. ولقد كان المشهد على نحو ما يُصوِّره سارتر عجائبيًا غريبًا مُثيرًا للدهشة وانفغار الأفواه: ’’كيف؟ أيتكلمون من تلقاء أنفسهم؟ انظروا .. ماذا خلقنا منهم؟‘‘، ومع ذلك فلم يرَ المُسْتَعْمِرون الأوربيون في ذلك سوى علامة إيمان من المُسْتَعْمَر بالمُسْتَعْمِر عبر استدلال ضمني مؤداه ’’أنهم يقبلون مَثَلَنا الأعلى، ماداموا يتهموننا بأننا لسنا أوفياء له.‘‘ (نفسه) 

اضغط هنا لمتابعة القراءة