بن هيتشنسون [1]Ben Hutchinson

 ترجمة: د. هيثم كامل الزبيدي

القراءة في الأدب: اختبار روشاخ

ما الذي تراه في بقعة الحبر؟ البعض يرى غيمة مجردة، آخرون يستقرؤن فيها قناعا متوعدا. البعض يرى فيها مساحات موحية، وآخرون يركزون على الخطوط التي شكّلتها. يمكننا أن نتفق افتراضا على أن جانبي الصورة متطابقان، ولكن ما وراء ذلك، تقوم أدمغتنا بمعالجة المعلومات على نحو مختلف، فنسقط اقترانات وانحيازات – وآمال وآلام – على شيء متحوّل غير محدد. فالصورة، بعبارة أخرى، لا تعكس إلا ما يراه الرائي (الشكل 1).

وعلى ما فيها من انطباعية، إلا أن اختبار بقعة حبر هيرمان روشاخ يقدّم لنا مقاربة دالّة للأدب المقارن. ونظرا لفهم الأدب المقارن  على أنه دراسة متبادلة لشكلين على الأقل من أشكال الكتابة، لذا فهو في آن واحد الفعالية العقلية الأكثر تلقائية والأكثر تنظيما  في آن واحد. فبينما نسعى جاهدين لكي نفهم نصّا أو تقليدا، تجدنا نقارن غريزيا ما بينه وبين نصّ آخر أو تقليد آخر. فأحد جانبي الشيء يعكس أو يشكّل جانبه الآخر (غطِّ نصف الصورة وسرعان ما تفقد أي شكل من أشكال البنية). ومع ذلك، ما زلنا نجلب منظومة كاملة من الميول السياسية والتاريخية والثقافية إلى المقارنة، جهاز إدراك حسّي نستحضر من خلاله المعنى حينما نقارنه. لذا فإن استخدام نصّ ما لأجل فهم نصّ آخر – أن نقرأ مسرحية العاصفة لشيكسبير بالتوازي مع مقال “حول أكلة لحوم البشر” للكاتب دي مونتين، على سبيل المثال، أو أن نقرأ الشعر الصيني لسلالة التانغ مع الشعر الأوروبي في العصر الحديث – يعكس شيئا معينا عن ذائقة المرء ومعرفته، هذا إذا كان ثمة اعتقاد بوجود شيء ذي معنى يمكن أن نتعلمه من خلال ربط السياق المتعلق بذائقة المرء ومعرفته. توضّح المقارنة، عبر منهجياتها، أن قراءة الأدب هي بالأحرى قراءة في الأدب.

فالأدب يوجد بشكل مقارن، بعد كل شيء. فمنذ مسرحيات الأولين حتى روايات المحدثين، ومن الملاحم الشرقية إلى الكلاسيكيات الغربية، ليس ثمة نصّ في التأريخ هو نصّ قائم بذاته فعلا. أن تقرأ وتكتب هو أن تعمل ضمن إطار قائم  من الشخصيات والتقاليد، والحبكات، والمنطلقات؛ إن كيفية فهمنا لعمل أدبي معين تتوقف على كيفية فهمنا لعمل أدبي آخر. فكلما زادت معرفتنا، كلما زادت مقارناتنا. المعرفة نفسها مقارنة. فما وراء ما نقرأ، وما وراء ما نكتب، ثمة مقارنة متصلة بشكل وثيق بطرق تفكيرنا.

وبينما هذا الأمر يجعل الأدب المقارن من بين التخصصات الذهنية الأكثر طموحا، كما أنه يجلب كافة  المتبنيات ويضعها موضع التساؤل. فإذا كان الأمر “أن تقرأ هو أن تقارن” كما قال جورج شتاينر بعبارته البليغة، وهو أحد أبرز المقارنين المعاصرين وأكثرهم تأثيرا، إذن فإن مبارزة منطقة محمية بغية مطاردتها قد لا يبدو ضروريا في واقع الأمر، طالما كنّا نقوم بذلك على الدوام بأي حال من الأحوال. دعونا نطرح الأمر بشكل مبسط، ما هي قوة الأدب المقارن، مقارنة بقوّة الأدب؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال، يتوجب علينا الغوص في ممارسة التخصص، وتأريخه، ونظرياته.

لماذا، بل وكيف، يصبح المرء مقارِنا؟ بالنسبة لي، بدأ الأمر بشغف باللغات، ثم تحوّل إلى شغف بالآداب المكتوبة بتلك اللغات، ثم إلى كيف يمكن أن نربط النقاط بينهما. وما أن تبدأ النقاط في التماسك وتتخذ نمطا معيّن تكون تلك اللحظة التي يصبح فيها الأدب مقارنا حقّا، وهي من بين الخبرات العقلية الأكثر بهجة. أن تتبع تطوّر الرواية من ثيرفانتيس إلى (ايتاليو) كاليفنو، أن تجرس تأريخ السوناتا من بيترارك حتى بوشكين، هو أن تبحر على هدى نجوم جديدة وكبيرة، تم الاعتماد عليها من خلال متعة اقامة قنوات ربط عابرة للثقافات. أي شخص فضولي بالفطرة، سواء كان يمتلك مهارات لغة أجنبية أم لا، يمكنه أن يشاركنا هذا الرضا. الفضول، العقل المتفتح، والطموح المعرفي: هذه هي المتطلبات الوحيدة لصنع المقارنات.

هنالك بعض الغرائز الانسانية الأكثر أهمية من النزعة للمقارنة. فمنذ أولى إشارات الوعي الذاتي، بدأنا نفهم أنفسنا ضمنيا بناءً على العلاقة مع الاخرين، وعندما كبرنا، تعلمنا كيف نقيس تطورنا من خلال الإشارة أو المقارنة مع الأقران، فنطوّر مجسات جيدة الدقة لأوجه الشبه والاختلاف. يمكن للمقارنة أن تتخذ العديد من الأشكال – التعاطف، الحسد، النزعة الدفاعية، الاحترام – لكنها دائما تعود إلى تصوّر أو استيعاب التنوع، إلى الإقرار (سواء بحقد أو بامتنان) بوجود أمثر من طريقة واحدة للكينونة، وأكثر من طريقة واحدة للقيام بالأشياء. أن ننظر إلى ما وراء أنفسنا، هكذا نتعلّم.

تتخذ انماط المقارنة الاكاديمية هذا الدافع النفسي الأساسي، وتسبغ عليه شيئا من التجرد. مع ذلك، ما يزال سياق المشاهِد يوفر لنا نقطة مرجعية بالغة الأهمية: قد يتطلع الأدب المقارن إلى موضوعية “التخصص العلمي”، لكنه في الواقع متواطئ جدا في التحيز والمواقف التي تحدده. قد يبدو مناقضا للفطرة أن نقرّ بهذا الأمر في أول صفحات مقدمة مثل هذي، ففي الحقيقة، ليس هناك معنى موضوعيا واحدا للأدب المقارن. ورغم إشكالية فكرة الأدب بحد ذاتها، وسنرى أن هذه المسألة قد أثارت جدلا متزايدا – إلا أن صفة “المقارَن” لا تدل على شيء سوى الخلاف التام بشأن كيفية مقاربته. كل ممارس للأدب المقارن تقريبا لديه فكرة مختلفة بشأن كيف وماذا نقارن، كل ممارس للأدب المقارن تقريبا لديه منظومة مختلفة من الأولويات. الاجماع الوحيد هو بشأن عدم الاستقرار الكامن في المصطلح. وكما هو حال الحكومات في النظم الديمقراطية، لدينا أنماط المقارنة التي نستحقها.

إن هذا اللا استقرار هو جوهر الأدب المقارن. إذ يعتمد كل من معناه ومنهجياته على تحريك ثبات السائد، من خلال افتراء روابط طازجة بين النصوص اليائسة والتقاليد الرصينة. وما مصطلحات “الأدب العالمي” أو “التعددية اللغوية” إلا بعضا من أحدث الأمثلة على المحاولة المستمرة لإسباغ سمة الاستقرار على مفهوم غير مستقر، فعلى خلاف المجالات المحددة الواضحة  للآداب القومية (الانكليزي، الفرنسي، الروسي…إلخ)، لا يمتلك الأدب المقارن نمطا سائدا من النصوص، وليس له نمط سائد من المقاربات إلى النصوص. وباختصار، يشكل الأدب المقارن تخصصا ذاتيا، نمطا من القراءة التي تعكس الذات، أكثر منه غاية للبحث والدراسة، أو ربما نمطا انعكاسيا ذاتيا للقراءة سعيا وراء غاية للبحث والدراسة. وإذا ما جعله هذا الأمر أشبه باختبار روشاخ، فإنه يجعله أيضا مرآة للمخاوف الفكرية للحداثة فيما يتعلق بالعولمة.

العلاقات الدولية:

ولكن ما الأدب المقارن؟ لا شك أن المشتغلين في هذا المجال قد سمعوا هذا السؤال في مناسبة ما، إن لم نقل في مناسبات عدّة، خلال مسيرة حياتهم العملية. فالقراء الطموحون الذين يسعون إلى تمديد أنفسهم عادة ما يجذبهم المفهوم، ولكنهم غير متيقنين من مضامينه. والحق أنه، في نواحٍ كثيرة، حتى المحترفون لا يستطيعون الاتفاق على مصطلح واحد، فنجدهم يطلقون عليه –ولنأخذ ثلاثة أمثلة فقط – المقارَن (compared) في الفرنسية (literature comparee)، و المقارنة (comparing) في الألمانية (vergleichende Literaturwissenschaft) والمقارِن (comparative) في الانكليزية. وبينما يدل التصريف الثالث للفعل في الفرنسية أن المقارنة قد وقعت فعلا وانتهت، وصيغة التصريف المضارع المستمر في الألمانية يدّل على أن المقارنة ما تزال في عملية الحدوث، نجد أن الصفة الانكليزية تماهي التمييز ما بين المفعول به والملاحظ (هل إن الأدب هو المقارَن أم إنها المقاربة أو المنهج؟) فالمصطلح نفسه، عندما يتم النظر فيه على نحو مقارَن، يفتح صندوق المشاكل المتعلقة بالاختلافات الثقافية.

ومع ذلك، وباختصار شديد، فإن هذه هي القضية كلها. أن ننظر إلى الأدب على نحو مقارن يعني أن ندرك كم يمكننا أن نتعلّم من خلال النظر إلى آفاق تقاليد المرء، فهو اكتشاف المزيد ليس عن الآداب الأخرى فحسب، بل عن الأدب المحلي للفرد، وهو المشاركة في الحلم الطوباوي العظيم لفهم طرق تفاعل الثقافات. ففي عصر عُرّف من قبيل السخرية بالهجرة وعبور الحدود من ناحية، وبالنكوص نحو أحادية اللغة وأحادية الثقافة من ناحية أخرى، لقد أصبحت أجندة الأدب المقارن العابرة للثقافات أساسية لمستقبل الانسانيات. فنحن جميعنا، في حقيقة الأمر، مقارِنون، إذ نقوم بعقد المقارنات عبر اللغات، والثقافات، والأجناس، لدى قراءتنا. ولكن السؤال هو ما إذا كنا ندرك ذلك أم لا.

تسعى هذه المقدمة القصيرة جدا إلى جعل هذا الميل للمقارنة واعيا. فمن وجه نظر كل من الدراسات العلمية والتأريخ الثقافي بشكل عام، يحاول بحثنا هذا النظر في كل من النظرية والتطبيق في الأدب المقارن على أنها تعابير عن المناخات الفكرية المتغيرة، فضلا عن كونه كادر من المنفيين، والمهاجرين والمستكشفين ممن استوطنوا تلك المناخات. فتأريخ الأدب المقارن ونظريته هما تأريخ ونظرية الثقافات الأدبية وكيف تعلمت أن تنظر إلى بعضها بعضا، وكيف أن التفاهمات، أو حالات  سوء الفهم، والصداقات ذات الأمتياز التي قد بزغت ما بين مختلف أنماط التعبير. أن قوى الحداثة التي تسببت في ظهور هذا الاختصاص – من الكولونيالية والنزعة القومية إلى المنفى والحالة العالمية – هي أيضا القوى التي شكّلته، ونحتت مشروعه في المقاربة، والتضادات، والتمييز الثقافي. باختصار، الأدب المقارن يشكل شيئا يشبه العلاقات الدولية في الثقافة.

إذا كان مثل هذا الفهم للأدب المقارن يوحي بأنه فعالية سياسية أكثر منها أدبية نقدية، كما أنه يشير  الى الطرق المتغيّرة التي فُهِمَ (الأدب المقارن) من خلالها. إن تأريخ الأدب المقارن ليس مجرد تأريخ لتخصص علمي، بل هو تأريخ الفهم الذاتي للتخصص. ثمة فئتان تسيطران على هذا الفهم الذاتي: الحداثة وأوروبا. ويتتبع مقالنا هذا تشكّل الأدب المقارن في هذين الفئتين—فإذا اغفلنا ذلك سيكون تشويها لتطوّر هذا المجال المعرفي—ولكن سردية مغايرة يمكن أيضا تشكيلها بشأن ما قبل الحداثة والعالم. وكما يُظهر المؤرخون العالميون بشكل متزايد، ليست هناك حاجة لانتظار وصول الحداثة الأوروبية – والحق أن فكرة “الحداثة الأوروبية”—لنؤكد احتمالية وجود المنظار المقارن قبل عصر النهضة بوقت طويل، فاللغات السانسكريتية والعربية والصينية قد ضاهت اليونانية والرومانية من حيث صفتها الكونية وأنماط تعبيرها العابرة للقوميات. كما أن التعدد اللغوي – ما بين اللغة المحكية الدارجة واللغة المشتركة للتواصل، على سبيل المثال—كان سائدا في القرون الوسطى. ومن هنا فإن الأدب المقارن هو علاقات تداخل لغوي للثقافة.

في أوروبا الحديثة، كان تطور الأدب المقارن بوصفه عملية تبادل فكري بين الأمم يرجع، من الناحية الجيو سياسية، إلى ما بعد عام 1648 وفكرة السيادة القومية التي كرّستها معاهدة ويستفاليا (Westphalia). من أجل أن يكون المرء دولياً، عليه أن يكون وطنيا: فمبدأ توزان القوى، مع مبدأ الحرية الدينية (والثقافية بالضرورة)، أكدا على أن الامبراطوريات المتعددة والسلطنات ذات السيادة بدأت تسعى للتبادل الثقافي عوضا عن الحروب الدولية. وبحلول القرن التاسع عشر—الحقبة التي تطور فيها الأدب المقارن بكل حرص – أعيد التأكيد على هذا التوازن في القوى، ولا سيما عقب جيشان حروب نابليون، على يد مؤتمر فيينا عام 1815، الذي ثبّت خارطة أوروبا للمائة عام التالية.

إن قيام الامبراطوريات الكبرى  (بروسيا، روسيا، النمسا) بتحقيق مكاسب كبيرة، يعني أن العديد من الدويلات الصغيرة – والعديد من اللغات أيضا – أصبحت الآن تُصنّف على أنها ضمن المجال الحيوي لتلك الامبراطوريات. فثمة طيف من الثقافات المختلفة التي حُشرت ضمن حفنة من التصنيفات الكبيرة، ومن الأفضل الموازنة فيما بينها على الصعيد العابر للقومية: لذا فإن شروط المقارنة، كما يمكن القول، كانت مثالية. مع ذلك، فبالنسبة للمجال المعرفي الجديد للأدب المقارن، فإن هذه الهيكلية الأمبريالية قد أوجدت ربطا مزدوجا، طالما أنها تعني أن محاولات القفز على التقسيمات القومية كانت مرتبطة بتلك التقسيمات بشكل دقيق، وأطِّرت في مرويّة البلدان والمستعمرات المتنافسة. وباختصار، فإن المقارنات قد تطورت ضمن وبين الأمم والامبراطوريات –النابليونية، والفكتورية، والهابسبورغية – كما هو الحال ضمن وبين اللغات والآداب. وإذا ما فهمناه وفق المفاهيم الجيو سياسية للقرن التاسع عشر، فإن الأدب المقارن كان أدبا منافسا أيضا.

قارِن وبايِن

بوجود مثل هذه المرويات المتنافسة، كيف يمكن أن نفهم عملية المقارنة على أفضل وجه؟ ربما من يتوجب علينا أن نبدأ من خلال النظر إليه على أنه بحث عن استعارة بلاغية كبرى. ذهب الناقد البلجيكي المولد باول دي مان (1919- 1983) إلى أن الأدب الحديث يؤسس “أقاصيص القراءة” خاصته، والأدب المقارن، بالأستعاضة، يؤسس أستعاراته البلاغية في القراءة، ونماذجه في كيفية تأويل النصوص والثقافات ما بين اللغات والأمم. إن مثل هذه الاستعارات قد تُقسم بشكل مؤقت إلى مجموعتين: تلك التي تدلّ على الارتباط أو التشابه، وتلك التي تدلّ على عدم الارتباط أوالاختلاف.

وإذا ما بدأنا بالمحموعة الأولى، فلربما نجد أن الإستعارة البلاغية الأكثر تجليّا للمقاربة المقارنة للأدب هي استعارة “مفترق الطرق.” واقفا في مركز أي عدد من الممرات أو الفضاءات المتقاربة – طريق الحرير، الامبراطورية الرومانية المقدسة، جمهورية الحروف –، يقوم المقارِن (بكسر الراء)، بإتباع هذا النموذج، باستطلاع المرور العابر، وتوجيهه. إن مثل هذا الموقف يعود بالعديد من المزايا: الوصول المتميز إلى مجموعة من المصادر: والتعرض إلى منظارات متنافسة: والتحفيز المستمر و(إعادة) التفاوض. غير أنه يخاطر أيضا بالتعرض إلى التضليل، فتضع المقارِن (بكسر الراء) تحت رحمة المصادفة والظرف، فرأسها الذي يلف بحنق كما هو حال طائر نقّار الخشب  في أحد الأفلام الكارتونية التي انقلبت فيها كافة إشارات المرور في الطرق. والأكثر أهمية، أنه يعتمد أيضا على نموذج الأدب المقارن الأقل تمركزا في أوروبا – الخوف الكبير من النقد المعاصر في عصر العولمة ما بعد الاستعمارية—بوصفها “متمركزة على المركز”، طالما أنها تضمر أن المقارِن (بكسر الراء) يتوجب عليه أن يكون في مركز تلك المناظرات والجدالات، كما هو حالها. ففي عصر “الجنوب العالمي” وعصر إعادة ترتيب الهوامش والاطراف، من غير الواضح جدا أن مركزا كالذي مرّ ذكره بقادرٍ على الصمود.

وكبديل، فإن نموذجا بالغ الأهمية للتفاوض هو ذلك المتمثل في “السوق.” ففي عصر يكتب فيه الكتّاب الناجحون لجمهور عالمي، فضلا عن جمهورهم المحلي، و”القابلية التسويقية” العابرة للثقافات للأدب قد أصبحت معيارا هامّا في تحديد ما يجب مقارنته –وما يجب كتابته. واستعارة “السوق”، بعبارة أخرى، ترتبط بكل من القارئ والكاتب: الأدب المقارن برمته، عادة ما يُفهم من منظار نقدي فقط، على أنه قضية تلقّي –ولكنه يمكن أيضا أن يفهم من منظار المؤلف أيضا، كقضية ابداع. سابقا، في عشرينيات القرن التاسع عشر، أطلق غوته مصطلح “الأدب العالمي” واستخدم أستعارة “السوق”— ولكن بمفهوم السوق في عصر التنوير بوصفه منصة للتجارة والإتجار بعض الشيء، وبغية تشجيع توزيع وانتشار أعماله الخاصة. فالكاتب، وهو يضع نصب عينيه الحقوق والطبعات الاجنبية الممكنة، إنما يكتب نفسه في سوق عالمية للأفكار تماما كما هو حال الناقد وهو يبيع تلك الافكار ويشتريها؛ المقارنة تتطلّب وجود شيء لكي يُقارَن. وبعد تسليعه وجعله مادّيا على هذا النحو، فإن استعارة “السوق” تشير إلى الإطار الاجتماعي-الثقافي الذي يشتغل به الأدب المقارن بالضرورة، نحو شبكة من الناشرين، والمحررين، والمراجعين، والمترجمين والاساتذة الجامعيين الذيت يجعلون ذلك ممكنا.

إن استعارات من قبيل “مفترق الطرق” و”السوق”—فضلا عن غير ذلك من الاستعارات السياسية الواضحة، والتنوعات من قبيل “البرلمان” أو “الأمم المتحدة”—يمكن النظر إليها على أنها تسهّل التفاعل بين منظارين أو ثلاثة. والحق، أن المرء قد يسرف ويقترح أنها تحاكي المعنى الحرفي للاستعارة: تماما كما تعمل عملية المقارنة بحد ذاتها عمل التشبية – من خلال قولنا أن شيئا معيّن يشبه شيئا آخر—فإنها أيضا تفعل فعل الاستعارة (metaphor) المشتقة من الكلمة الإغريقية (meta-pherein) والتي تعني “أن تحمل” أو “أن تنقل”، فتدل على الطرق التي يمكننا من خلالها أن نقارن فكرة بأخرى. بعبارة أحد المفكرين الأوائل في التقاليد الغربية، “الاستعارة الجيدة تضمر تلقيا فطريا لأوجه الشبه والاختلاف. كما أن تعريف أرسطو للعبقري قد تنطبق على نفس المنوال على الطريقة التي يقارب المقارنون (بكسر الراء) الأدب من خلالها، ليجدوا أو يؤسسوا روابط غير مدركة سابقا بين نصين وأكثر.

لكن الاستعارات قد تكون مضللة. أحيانا لا تكون كما “تُحمل” على المحمل الذي أٌخذَت عليه. وصف الناقد الدنماركي جورج برانديس (1842- 1927) الأدب المقارن على أنه تلكسوب يكبّر ويقلّل الاشياء – سيما وأنه يرى أبعد الأشياء (أي عبر الحداثة الأوروبية برمتها) من خلال التركيز على أشياء بعينها (مثل نصوص هنريك أبسين، سترندبيرغ، أو نيتشه) – والصورة التي قدمها (برانديس) تصوّر الطبيعة المتأرجحة لكل من المقارنة، والاستعارات التي تحيط بها. كيف يمكننا أن نفهم هذه الاستعارات التي تشكك بكل معنى سهل للأدب المقارن بوصفه عملا تجاريا للاستيراد والتصدير الفكري؟ كيف بمقدورنا أن نفهم آليات الاختلاف، فضلا عن التشابه؟ أي الاشياء يمكن للمرء، باختصار، أن يصنفها على أنها أدبا متعاكسا أو تقابليا؟

يشكل الأدب التقابلي أو الموازَن (contrastive) نظيرا لا بد منه للأدب المقارَن: فبدون الاختلافات، ليست هناك أوجه شبه. ومن أجل أن نقول أن شيئا ما يشبه شيئا آخر، على المرء أن يقول ضمناً ما هي الاختلافات بينهما؛ ومن أجل أن نقارن، علينا أن نفترض امكانية المقابلة. وإذا ما نظرنا على هذا النحو، فالأدب المقارن يتعلق أكثر باعادة تصور المقارنات أثناء عقدها، وبناءً عليه فإنه (أي الأدب المقارن) يجذب مجموعة متطابقة من الاستعارات  التي تتمحور حول خلق منظارات جديدة ومعان جديدة. وربما تكون الاستعارة الأكثر هيمنة في هذه المجموعة هي استعارة “البوتقة.” فعلى خلاف صورة مفترق الطرق، والتي تقترح أن النصوص والأفكار قد تأخذ اتجاهات مختلفة، ولكنها تبقى تدور في أفلاك مُدركَة مسبقا، فالبوتقة اللغوية – فيما قبل الحداثة، اللاتينية أو السانسكريتية؛ وما بعد الحداثة، الأدب “العالمي” باللغة الانجليزية أو الفرنسية – تضمر أن الأفكار المحلية تختبر تغيّرا جوهريا في الشكل من أجل أن تلقى تعبيرا ضمن (التنوعات المتعددة لأي) متلقٍّ عالمي واحد. وإذا ما فهمناه حرفيا، فإن ذلك سيعني ضمنا أن الأدب المقارن يختزل كل الكتابة بقالب واحد، تخرج منه بعدئذ مجموعة من المعاني الجديدة المعاد تشكيلها.

لا شك أن المقارنة حتى ضمن اللغة الواحدة ليست بالشيء الصريح والواضح؛ يمكن للبوتقة الواحدة أن تتضمن جمهرة من المكونات، المكونات التي يقع على عاتق القائم بالمقارنة أن يتذوقها ويحددها. فوضع الحدود بين نسخة من فكرة معينة وأخرى—فيجلبهما سوية، ولكن في ذات الوقت يفصلهما عن بعضهما – هو أمر أساسي في الممارسة المقارنة. فإذا كان نموذج البوتقة يحلل العناصر المتصارعة تماما كما يفككها، فإن فكرة الأدب المقارن على أنه “نقطة سيطرة حدودية” تسبغ على القائم بالمقارنة قوة عظمى. لأنها تقترح أنها يمكن أن تغلق مرور الأفكار أثناء السماح لها بالمرور الآمن، وأنها مخوّلة بأن تستلب النصوص بحثا عن محتوى ممنوع أو محرّم (اتجاهات الكولونيالية الضامرة في الأدب الأوروبي الحديث مثلا). يجلس المقارن (بكسر الراء) ليحكم على تدفق الافكار، بحساسية ليبرالية نوعا ما، ونزعة اقتصادية تحررية نوعا ما. لكن الافتراض بأن مثل هذا الموقف أشكالي من الناحية الأخلاقية فضلا عن الجمالية، ليس بأهون الشرور. من أجل دراسة تأريخ الموضوع – ولا سيما العلاقة الوطيدة في القرن العشرين بين الشتات اليهودي وهذا الاختصاص الأكاديمي الناشئ – لا بد من ادراك أن الأدب المقارن في نهاية المطاف لا يتعلق بحماية الحدود أكثر من عبورها. يختار المقارِنون أن ينأوا بأنفسهم عن ثقافاتهم الأصلية، وأن يتخلوا عن آدابهم “المحلية” لصالح حالة من التشرّد المقصود، وهو أفضل للامساك بالنصوص والمجازات البلاغية التي تتخطى أي تعبير معين. يختارون أن لا ينتموا إلى أي تقليد معين – والحق أن “عدم الانتماء” هذا هو السمة المميزة لهم. فبوصفهم مغتربين فكريا، يقوم المقارِنون بعقد الروابط والصلات ما بين الثقافات، ولكن أثناء ذلك، فإنهم – وللمفارقة – يعززون التمييز ما بينها. وبهذا، فأن  المقابلات لا تقل أهمية عن المقارنات، كما هو الحال تماما مع حالات الانفصال والعزلة التي لا تقل أهمية عن الارتباطات.  


[1]   ترجمة مجتزأة من كتابه الموسوم “الأدب المقارن: مدخل موجز جدا”  Comparative Literature: A Very Short Introduction   الصادر عن مطبعة جامعة أوكسفورد، 2018. هذه الترجمة لا تنتهك أية حقوق لأنها تقع ضمن الاستخدام الأمثل للمطبوعات.