
أد. حسين محمود
بعد نحو 45 عاما من العمل تركزت معظمها في الكتابة، الصحفية والأكاديمية، فكرت في هذا اللقاء الجميل الذي يجمعني مع لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة لكي أعيد تنظيم مسيرتي مع اللغة والكتابة والترجمة. وفكرت في العمل الكبير – حجما- الذي قمت به، وكان معظمه استهلاكيا، مكتوبا لغرض عملي أو علمي، سددت به خانات إجبارية في حياتي، فكرت أن أعيد تنظيم هذه الكتابات – في كتاب واحد أتمنى أن أنتهي منه قريبا – عسى أن أجد فيها شيئا يربط فيما بينها، أو يربطني بها. كان هدف الأساسي هو الاستغناء عن كتابة سيرتي الذاتية والاستعاضة عنها بكتاباتي الذاتية، حتى وإن كانت مرفوضة ممن قدمت إليه للنشر أو الترقية أو ما شابه، أو ضعيفة بحكم ردود الأفعال السلبية عليها، أو ركيكة حسب تعبير رفاق الطريق الذين يقارنون ما كتبت بما قرءوا من درر. وإلا فلماذا لم يصلني أي شيء يفيد بحجم تأثير ما كتبت على من قرأ؟ صحيح أنه ربما أثرت في أفراد قلائل قرءوا هذه المقالات بالصدفة التي أملتها توافر الميديا الوقتية التي نشرت فيها، ولكنني أردت من تجميعها وتصنيفها ونشرها أن تكون قراءتها عمدا، قراءة موجهة، وأتمنى أن يستفيد منها من يريد، وسأكون في منتهى السعادة أن ينقل منها من ينقل، حتى دون ذكر المرجع، فلست من المؤمنين بحقوق المؤلف، ولأنني كنت من أكثر المستفيدين بحقوق القارئ الذي يتشكل وعيه وإنتاجه وإبداعه من نتاج غيره دون أية مراعاة لأكذوبة حق المؤلف.
ولا بد أن أقدم لقارئ هذه الصفحات اعتذارا مبدئيا عن حالة من الكسل الفكري أصابني في معظم كتاباتي، مرجعها إلى عملي مترجما من اللغات الإيطالية والإنجليزية والفرنسية طوال مسيرتي المهنية، ذلك أن عمل المترجم يعوده على أن يعيش على أفكار الآخرين، وخصوصا تلك التي تعجبه فيبادر إلى ترجمتها، وهذا التعود، رغم أنه يفتح الآفاق إلى أقصى اتساع لها، إلا أنه أيضا يصنع شبكة رقيقة، تشبه شباك العنكبوت، على الأفكار الخاصة الأصيلة، فلا يعود ممكنا التمييز بين ما هو من بنات الأفكار، وما هو متأثر بأفكار الغير، تأثرا يصل إلى حد التماهي.
والاعتذار أقدمه أيضا للترجمة نفسها، التي أسأت الظن بها. فقد ظللت سنين طويلة أنكر أنني مجرد مترجم، وأعتز أكثر بأنني كاتب وصحفي، لي قلم وأسلوب، وقد غذى هذا الظن عندي ردود أفعال إيجابية من رؤساء ومديرين عملت معهم وكانوا يحبون ما أكتب ويمتدحونه. ومع تقدم السن، وإدراكي لوظيفة الترجمة، وأنها مفتاح نهوض أي شعب، أدركت أيضا سمو هذه الوظيفة، ومدى ما يقدمه المترجم من تضحيات، ليس فقط من وقته وجهده، ولكن أيضا من فكره وأصالته الإبداعية، لكي يفيد غيره. أستطيع أن أفخر الآن بأنني مترجم.
وليس معنى هذا أنني أستنكر الوظائف الأخرى التي قمت بها، بل على العكس أفخر بمزاوجتها بنشاط الترجمة. والحقيقة أن وظائفي كلها كان تصب في مصلحة بعضها البعض – مع اعتذاري بالطبع هذه المرة لأنني استخدمت تعبير الصب في المصلحة المستهجن.
ولابد من الإشارة هنا إلى أساتذتي الذين كان لهم الفضل في تعليمي وتعلمي، وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور سلامة محمد سليمان، رحمه الله، وكان أستاذا للأدب الإيطالي، وترجم معظم مسرحيات إدواردو دي فيليبو، وترجم القصة والشعر أيضا، وكان قريبا مني، يرى ترجماتي ويريني ترجماته، ومنه تعلمت التذوق اللغوي، فمنهجه في الترجمة كان قائما على الاستساغة، فليست هناك جملة يضعها على الورق قبل أن يقرأها بصوت عال، ويقرأها على تلاميذه في مرحلتي الماجيستير والدكتوراه وينظر إلى رد فعلهم. ومن ينظر إلى مسودات ترجماته يجد أمامه خريطة لغوية كاملة عليها كل الاحتمالات والاختيارات.
