
1 ـ صياغة المشكل وتعريف أجناس الكلام
إن كافة المجالات المتباينة للنشاط الإنساني تشتمل على استخدام اللغة. ومن المفهوم تمامًا أن طبيعة وأشكال هذا الاستخدام متباينة بقدر تباين مجالات هذا النشاط. وبالطبع فإن هذا لا ينقض الوحدة القومية للغة(1). فاللغة متحققة في شكل تلفظات فردية ملموسة (شفاهية ومكتوبة) بواسطة مشاركين في المجالات العديدة المتنوعة للنشاط الإنساني. وتعكس هذه التلفظات الشروط والأهداف الخاصة بكل مجال من هذه المجالات ليس فقط من خلال الموارد المعجمية والأسلوبية والنحوية للغة وإنما قبل كل شيء من خلال بنيتها التأليفية . إن هذه الجوانب الثلاثة جميعًا – المحتوى التيمي والأسلوب والبنية التأليفية– مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بكلية التلفظ ومحدَّدة بالتساوي بالطبيعة الخاصة لمجال للتواصل.
إن كل تلفظ منفصل هو بالطبع تلفظ فردي ، بيد أن كل مجال
تستخدم فيه اللغة يُنمِّي أنماطه الخاصة المستقرة نسبيًا من هذه التلفظات، وهذه الأنماط هي ما يمكن أن ندعوها بأجناس الكلام speech genres.
إن ثراء وتنوع أجناس الكلام لا حد له ؛ لأن الإمكانات المتنوعة للنشاط الإنساني لا تنفد ، ولأن كل مجال من مجالات هذا النشاط يحوي ذخيرة كاملة من أجناس الكلام التي تتمايز وتنمو كلما أخذ هذا المجال الخاص يتطور ويصبح أكثر تعقيدًا. ويفترض أن يُشدَّد تشديدًا خاصًا على التباينية الحادة لأجناس الكلام (الشفاهي منها والمكتوب). وفي حقيقة الأمر، فإن مقولة أجناس الكلام يفترض أن تشتمل على الردود القصيرة في الحوار اليومي. وهي متنوعة إلى أقصى حد اعتمادًا على موضوع الحوار والموقف والأطراف المشاركة)، والسرد اليومي everyday narration، والكتابة (بكل أشكالها المتنوعة)، والتوجيهات العسكرية القياسية القصيرة، والأوامر التفصيلية والمفصَّلة، وذخيرة وثائق العمل المتنوعة تنوعات شتى (وإن تكن في معظمها معيارية)، والعالم المتنوع للتعليقات (بالمعنى الواسع للكلمة: اجتماعية وسياسية). كما يجب علينا أيضًا أن نضم هنا الأشكال المختلفة من التعبيرات العلمية وكل الأنواع الأدبية (من المثل إلى الرواية متعددة المجلدات).
قد يبدو أن أجناس الكلام متباينة تباينًا شديدًا، بحيث إنه ليس لديها ولا يمكن أن يكون لديها مستوى واحد مشترك يمكن أن تتم دراستها فيه. ذلك أن ما يبدو لدينا هنا، على مستوى واحد من الدرس، هو ظواهر متباينة من قبيل ردود الحياة اليومية ذات الكلمة الواحدة والروايات متعددة المجلدات والتوجيهات العسكرية المعيارية حتى على مستوى تنغيمها، والأعمال الشعرية الغنائية الشديدة الفردية، وهكذا قد يتصور المرء أن مثل هذا التباين الوظيفي يجعل السمات المشتركة لأجناس الكلام مجردة وخاوية على نحو فائق. ولعل هذا يفسر لماذا لم يُطرَح حقًا المشكل العام للأجناس على الإطلاق. لقد درست الأجناس الأدبية أكثر من أي شيء آخر إلا أنها منذ الأزمان القديمة وإلى اليوم ظلت تدرس من حيث سماتها الأدبية والفنية الخاصة، من حيث الاختلافات التي تمايز جنسًا أدبيًا عن الآخر (داخل عالم الأدب)، وليس بوصفها أنماطًا خاصة من التلفظات المتمايزة عن أنماط أخرى بيد أنها متشاركة معها في طبيعة (لغة) لفظية مشتركة.
