
الأستاذ فلاح حكمت
مقدمة: تشوّش جديد في صورة قديمة
كثيراً ما تردّد في ثقافتنا التعبيرُ ذو الصياغة الإستفهامية الساخرة: (هل استوت القرعاء بذات الشّعْر؟) للدلالة على أنّ الفروق بين الناس ليست موضوعة عابرة نتناولها من غير تدقيق، وأنّ تباين القدرات والمواهب، سواءٌ كان حتمية وراثية أو مؤثرات تفاعلية مكتسبة، هو أمرٌ لا يمكن إلغاؤه بقرار فوقيّ أو ظرف طارئ. مع صعود تقنيات الذكاء الإصطناعي وتعاظمها المتسارع، عاد هذا السؤال مطروحاً بنبرة مختلفة، وبقلق حقيقي: هل هذه التقنية القوية -التي فاقت كلّ الثورات التقنية السابقة لها بكونها مبشّرة بعصر تنوير جديد- جعلت الجميع: المتمرّس والجاهل، الموهوب وعديم الموهبة، في مستوى فكري وأدائي واحد؟ هل صار كلُّ من يملك وَصْلة بالإنترنت قادراً على الكتابة والإبداع وإنتاج المحتوى دون معاناة جهد التفكّر والإبداع؟ وهل هذا يعني نهاية التفوّق الفردي، أو إنحسار قيمة المثابرة والصبر والصقل؟
هذا التصوّرُ لا يبدو جديداً تماماً؛ فهو يُعيد إلى الواجهة علاقة قديمة بين البشر والأدوات: كل أداة جديدة يُعدّها البعض باباً للخلاص والقدرة الفورية، بينما يراها آخرون تهديداً وجودياً لمكانة الإنسان؛ غير أنّ الحقيقة – بقدر ما يعينني الإجتهادُ في هذا الموضوع- أكثر تعقيداً، بل وأكثرُ إنصافاً للقدرة البشريّة مما يُظَنّ.
القوّة ليست هي المساواة
عندما ظهرت الكتابة قبل آلاف السنين، ظنّ البعض أنّها ستقضي على الذاكرة، وأنّ اعتماد الإنسان على الورق سيجعل عقله أضعف أداءً. وعندما ظهرت الطباعة، قال آخرون إنّ وفرة الكتب ستجعل العلم سلعة رخيصة بغير قيمة. الأمر نفسه شهدناه مع مقْدَم الكهرباء، والراديو، والحاسوب، والإنترنت. اليوم نشهد الأمر ذاته يحصل مع الذكاء الإصطناعي.
لكن لنحدّدْ منذ البدء أنّ ثمة خلطاً بين مفهومين: إتاحة القوّة، وإلغاء الفوارق. الذكاء الإصطناعي أتاح للناس قدراتٍ لم تكن متاحة فيما سبق: تلخيص نصوص، صياغة رسائل، تحليل بيانات، اقتراح أفكار…. ؛ لكنّه لم يُلغِ الفروق البنيوية بين الناس، بل حتّى أنّه كشفها وأعلنها على الملأ. الفكرة الجوهرية وراء هذا هي أنّ امتلاك الأداة لا يعني -بالضرورة- حُسْن استخدامها، تماماً كما أنّ امتلاك سيّارة فورميولا-1 لا يجعل سائقاً مبتدئاً بطلاً عالميّاً!!.
الكتابة ليست نصّاً فقط؛ بل وعيٌ يسبق النص
من يتصوّر أنّ أدوات الذكاء الإصطناعي (تكتب بدلاً عنه) يتجاهلُ أنّ الكتابة ليست محض فعالية ناجمة عن رصف كلمات. إنها موقف فكري، ورؤية للعالم، وقدرةٌ على اتخاذ قرار، وذائقة، وإحساسٌ بالسياق، وجرأة على التفكير وطرق الأبواب الموصدة، وفلسفة ضمنية في كل جملة في سياق الرؤية الفلسفية الشاملة. هذه الأشياء لا تمنحُها أيُّ أداة جاهزة. الذكاء الإصطناعي يمتلك قدرة صياغة العبارات؛ لكنه لا يعرف ما الذي يريد الكاتب قوله ، وفي أيّ سياق. يمكنه أن يعطيك فقرات عديدة قدر ما تشاء؛ لكنه لا يمنح النصّ روحاً. يمكنه أن ينتج لك نصّاً مقبولاً؛ لكنه لا يخلق لك بصمتك، ولا يختار لك أسئلتك، ولا يحدّدُ لك أولوياتك، ولا يصنع لك مشروعك الفكري.
إنّ من يحوزُ رؤية سيستخدم الذكاء الإصطناعي لتسريع تنفيذها؛ أمّا من لا رؤية له لن تمنحه الأدوات رؤية. هنا لن تستوي القرعاء بذات الشّعْر يوماً، بل تكاد الفوارق تتسع بفعل موهبة الذكاء الإصطناعي التي لا يمنحها للمتكاسلين أو المفتقدين للأدوات التحليلية اللازمة.
