أظنّهم قليلين هؤلاء الذين يتخّذون الترجمة مهنةً لهم في عالمنا العربي. حتى في العالم الغربي ثمّة مكابداتٌ لمَنْ يعمل في نطاق الترجمة. ليس من اليسير أن تعمل بعقود عمل ثابتة وطويلة الأجل مع جهات مؤسساتية شاخصة لها ثقلُها الثقافي والإعتباري على نطاق عالمي. لكنْ تبقى الترجمة مهنة في توصيفها العام سواءٌ كانت مهنة بعمل كامل أو جزئي، لذا ستكون خاضعة لإشتراطات ممارسة المهنة الصحيحة والمناسبة. 

   قلتُ أنّ الترجمة مهنة في المقام الأوّل، لكنّها تتعالى على الشروط اللازمة لكلّ مهنة، ومثلها تفعل كلّ مهنة يريدها ممتهنُها أن تملأ حياته بالنشوة وشغف العمل بقلب منشرح وروح خلاقة. ما أبْأس مَنْ يعمل في مهنة تضيفُ له هموماً متراكمة على قلبه وروحه حتى يكاد معها عقله ينفلق!. لا تمضي خياراتُ الحياة دوماً هادئة متّفقة مع ما نُمنّي القلب بممارسته من المهن، وسعيدٌ دوماً هو ذاك الذي يتناغم شغفه مع مهنته. والعكس صحيح أيضاً: شقيٌّ هو ذاك الذي يعمل في مهنة يراها تطعن قلبه بخنجر مسموم حتى لو جاءت له بالكثير من المال. نعم، صادقةٌ هي العبارة الإنجيلية التي تقول:” إذْ ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه“. ما فائدةُ المال وأنت تقتلُ شغفك كل يوم بفعل قصدي، ثمّ تمضي لقبرك بقلب كسير وروح مثلومة؟ أيستحقُّ الأمرُ كلّ هذا العذاب؟ لا يستحقّ أبداً. الخبرة تقول لنا إنّه لا يستحق. 

   تأخذني الخيالاتُ المحلّقة أحياناً لتخوم بعيدة فأرى مشهد الخلق الأوّل. في البدء كانت الكلمة. لا بأس من تحوير العبارة مفاهيمياً لتغدو: في البدء كان الإنسان. الإنسان نظيرُ الكلمة ومترافق وجودياً معها. أرى الخالق الأكبر (ليكن إلهاً أو عنصراً طبيعياً خارق القدرة والمعرفة. لن تهمنا التكييفات اللاهوتية بشيء هنا) وهو يصنعُ خلائقه من طين أو ضوء أو من لاشيء، من العدم. يصنعُ خلائقه ثمّ يمنحهم قبلة الحياة ويهمس في أذن كلّ منهم: أنت خلقتك لتكون (كذا): طبيب أو مهندس أو معلّمٌ أو مُغنٍّ أو راقص باليه أو كاتب،،،،. أظنُّ أنّ ثلاثة هُمْ مَنْ يُمضي معهم الخالق وقتاً أطول من سواهم في تشكيل هيأة الخليقة الأولى، ثمّ يطيلُ الهمس في آذانهم: جعلتك (رياضياتياً Mathematician) أو (فيزيائياً Physicist) أو (مترجماً Interpreter). أطعني يا بنيّ و لاتُخالفْ هذا الإمتياز الذي أختصَصْتهُ لك دون آخرين. إعملْ به وستكون فَرِحاً جذلاً، ولو أردتَ فتح بوابات جهنم لتندلق نارها عليك فخالف رغبتي في مهنة لن توردك سوى موارد الشقاء والهمّ والكدر.  

اضغط هنا لمتابعة القراءة