(الخط العربي فن منبثق من الكتابة)

مرتضى الجصاني 

لا يخفى على أحد أن بلاد ما بين النهرين أو (ميزوبوتاميا) هي أولى الحضارات التي ابتكرت الكتابة بشكلها المسماري وهي خطوة غيرت مجرى التاريخ والحضارات، ذلك أن الكتابة المسمارية التي ظهرت في الحضارة السومرية لم تكن كتابة صورية بل كانت كتابة دلالية، بمعنى أنها تدل على المعنى والمضمون. كما أنها كانت تملك نسقا جماليا فريدا من نوعه لأنها اعتمدت على كتابة السطر، وجاءت متكاملة من حيث الكتلة والفراغ.

وكما يبدو من ألواح الطين التي عثر عليها والتي تعود إلى العهد السومري أن الكتابة كانت تشكل مصدرا مهما في توثيق الطقوس والمناسبات وما إلى ذلك. ومع تطور الكتابة أصبحت شيئا أساسيا في الحضارات التي تلت الحضارة السومرية فنرى أن الحضارة البابلية التي تعد الأكثر غزارة في إنتاج أشكال حضارية وثقافية ظهرت فيها الكثير من المصادر الحضارية التي أصبحت فيما بعد أساسا لحضارات إنسانية أخرى. مثلا ظهرت فيها الأسطورة كما يتضح ذلك في ملحمة جلجامش، وظهرت فيها القوانين كما في مسلة حمورابي، وغيرها من الإنتاج الحضاري والثقافي. وهذا لا شك أثر تأثيرا مهما وكبيرا في شعوب أرض ما بين النهرين. فهذا الإرث الفني والثقافي ينتقل عبر أجيال بشرية مع تطور في أشكاله ورموزه، وهكذا انتقل شغف الكتابة إلى الحضارات التي تلت الحضارة البابلية، وهنا لا نقول أنه انتقل بالشكل نفسه والمحتوى، لكنه انتقل بشكل شغف كبير في هذا المجال.

غير أننا نفتقد حلقة مهمة بين الحضارات الأولى، وآخرها الحضارة البابلية الأخيرة، وبين الحضارات العربية أو الإسلامية إذ لا يوجد ما يؤكد أن هناك صلة فنية بين هذه الحضارات. لكنه من جهة أخرى عامل مهم في التطوير والابتكار، لذا يجب أن نفرق بين الكتابة من جهة، وبين فن الخط العربي من جهة أخرى، غير أن الخط العربي هو الشكل الفني للكتابة. فالكتابة ظهرت في بلاد ما بين النهرين بشكلها البدائي والترميزي، والخط العربي ظهر أو تطور بشكل ملفت للإنتباه في الحضارات العربية ومن أبرزها العهد العباسي. إلا أن بداياته تعود إلى عصر التدوين، ونقصد هنا تدوين كتاب القرآن الكريم. لكننا نرى تطورا مبهرا في العهد العباسي وبشكل يحول الكتابة إلى فن يدعى ب”الخط العربي”.

وهنا يتبادر إلى الذهن ما هو الفرق بين الكتابة والخط العربي؟ 

الفرق يكمن في أن الخط العربي هو الشكل الفني للكتابة ويأتي نتيجة تحريف زاوية القلم، ثم يصقل عن طريق التمرين والتجربة، وله سبعة أنواع معروفة وهي: خط الرقعة وخط النسخ وخط الثلث وخط الديواني وخط الجلي ديواني وخط الإجازة والخط الكوفي، ومئات من الخطوط المندثرة.

ما يهمنا من هذه الخطوط هو خط الثلث الذي يعد الخط الذي يحتوي على الكثير من الأسرار والنسب الهندسية والفن. ونلاحظ أن الخط الكوفي الذي يعود إلى منتصف العهد الأموي قد سبقه في الظهور لكنه لا يمتلك المزايا الجمالية التي يمتلكها خط الثلث من حيث التركيب والنسبة والتناسب والكتلة والفراغ.

ويعد رائد خط الثلث ومبتكره هو “ابن مقلة الوزير “1 الذي كان وزيرا في العهد العباسي، وكان فنانا بارعا بحيث توصل إلى أشكال حروف خط الثلث ووضع النسب الهندسية للحروف.

ثم أتى بعد ابن مقلة خطاطون كثر أجادوا هذا الفن وابتكروا أساليب وخطوطا جديدة حيث أضافوا جماليات في التفاصيل والتراكيب وغيرها، وكان من أبرز هؤلاء ( ابن البواب ) 2 الذي يقال إنه ابتكر ثلاثة عشر نوعا جديدا من الخطوط، إضافة إلى أن هذا الرجل كان شاعرا ومجددا ومبتكرا.

ومن بعده جاء الخطاط ياقوت المستعصمي 3 الذي يعتبر آخر خطاط في سلسلة خطاطي بغداد في العهد العباسي إذ سقطت بغداد بيد المغول وانتقل هذا الإرث الفني الكبير إلى الدولة العثمانية. وقد ظهر هناك في إسطنبول خطاطون مبدعون ومجددون كان أهمهم حمد الله الأماسي ومن ثم مصطفى الراقم وتلاميذه. حتى نصل الى آخر خطاط عثماني في العصر الحديث وهو الخطاط حامد الآمدي الذي توفي عام 1982 ميلادية.

ما يهمنا من كل هذا هو أن الفرق بين الكتابة والخط لم يكن قائماً من الأصل بل أن الخط هو وليد الكتابة وفرعها، لكنه تطور وأخذ أشكالا مختلفة ومتعددة وظهر فيه مبدعون في التراكيب الفنية مما جعل منه حالة خاصة من الفنون البصرية، حتى ليقال إن للخط العربي والمنمنمات تأثير كبير على أعمال ماتيس وبيكاسو، وهما من أهم رواد الحركات الفنية العالمية.

حالياً تشهد حركة الخط العربي رواجا كبيرا على مستوى العالم لما يمتلك من أنماط تركيبية غريبة ومعقدة . 

الهوامش:

1-الوزير الخطاط ابن مقلة (ولد عام 272هـ/ 886 م وتوفي عام 328 هـ/ 939 م) من أشهر الخطاطين العرب، واضع خط الثلث وأساس خط النسخ، وواضع أصول الخط العربي. من كتبه الشهيرة (جمل الخط) ورسالته المشهورة (رسالة الوزير ابن مقلة في علم الخط). تولى الوزارة ثلاث مرات لثلاثة خلفاء عباسيين هم المقتدر بالله والقاهر بالله والراضي بالله. ثم وشي به فقطع الراضي يده ورماها في نهر دجلة، فرثاها بمرثيته الشهيرة، لكنه واصل عطاءه ونتاجه ولم يتوقف. قيل إنه بدأ يكتب بيده اليسرى وكانت يسراه أروع من اليمنى، وقيل إنه كان يربط القلم على ساعده وهو يكتب. لم يكتف الحاكم بهذا بل زج به في السجن وقطع لسانه وكان يوجد في السجن جب فكان يسحب الدلو بيده وفمه ليستسقي الماء حتى توفي. ومن الغرائب التي صادفت حياته أنه تقلد الوزارة ثلاث مرات لثلاثة خلفاء وسافر ثلاث مرات وسُرق داره ثلاث مرات ودُفن ثلاث مرات حيث أنه دُفن أول مرة في دار السطان ثم حُمل فدُفن في داره ومن ثم أُخرج فدُفن في مكان آخر .

  2- أبو الحسن علي بن هلال بن عبد العزيز لقب بـ(ابن البواب) لان أبوه كان بوابا. 

 يرجح أنه ولد حوالي عام (350هـ /961م) أي أخلف (ابن مقلة). واشتهر في عصره كأحسن خطاط ولم يبلغ أحد في عصره ما وصل إليه من إجادة. كان واعظا في جامع المنصور ببغداد مليح الأسلوب في النثر ذا ملكة شعرية، وله قصيدة في صناعة الخط وأدواته ومواده. حفظ القرآن الكريم وتفقه به وأخذ علوم اللغة العربية. وقد نشأ محبا لفن الخط العربي ومال اليه كثيرا. كان يعمل في صباه مزوقا يشتغل بتصوير الدور والكتب والدواوين فأجاد صنعته، ثم عشق الخط وانصرف اليه وأتقن قاعدة (ابن مقلة) ثم جودها وحسنها وأبدع في أوضاع الحروف العربية وأبعادها مما جعلها غاية في الحسن والجمال. برع في خط الثلث فأجاد، وأبدع في خط الرقاع والريحاني، وقد كتب ابن البواب (64) مصحفا، توجد له نسخة في مكتبة (جستر بيتي) في مدينة دبلن بإيرلندا .

 يعد ابن البواب من الذين أكملوا ما بدأه ابن مقلة فقد أرسى قواعد الخط العربي وهذب حروفه وأجاد في تركيب السطور، ونال شهرة عظيمة حتى أطلق عليه لقب (الناقل الأول) واشتهر بعدة أسماء (علي بن هلال) و (ابن البواب) و (ابن هلال) 

توفي في جمادى الأولى عام (413) هجرية ويقال (423) هجرية (1022) ميلادية . 3- ياقوت المستعصمي ويكنى بأبي المجد أو أبي الدر. وكان كاتب آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله. ليس هناك تاريخ معروف لولادته لكنه توفي في فترة غزو المغول بغداد في أغلب الروايات عام 1298 ميلادية.