هل كان “الخطيئة والتكفير” بداية الغذامي في صدامه المجتمعيّ الذي اتّخذ من النقد الأدبيّ والثقافيّ مسرحًا له، أم نهايته؟!

الكاتب حامد أحمد الشريف

عندما دوّن المفكّر السعودي د. عبدالله الغذامي كتابه المفصلي في تاريخ الأدب السعودي، إن لم يكن العربي، “الخطيئة والتكفير”، لم يكن – في ما يبدو – متفاجئًا من الضجّة الكبيرة التي أُثيرت حوله، لا سيّما أنّه اختار له هذا العنوان الصادم، وهو العارف بخبايا النفس البشريّة. ولم تكن مجدية محاولته صرف المهتمّين عن العنوان الكبير بإضافة العبارة الإفصاحيّة: “من البنيويّة إلى التشريحيّة نظريّة وتطبيق”، إذ لم يغفروا له إيراد مفردة “الخطيئة” التي لها دلالتها في كلّ الأديان تقريبًا، مهما كان المتن مختلفًا؛ فالإسلام ينظر إليها على أنّها تعمُّدُ ارتكاب المحرّمات التي هي من موجبات التكفير عند أصحاب هذا التيّار. و”الخطيئة”، كما هو معلوم، تختلف جملةً وتفصيلًا عن “الخطأ”، الذي تنتفي منه تهمة التعمُّد، في وقتٍ تلتصق بالخطيئة، وبالتالي فإنّ إيرادها على هذا النحو من رجل بقامة الغذامي لغويًّا وفكريًّا، لن يمرَّ مرور الكرام، بالأخصّ أنّ الهوّة كانت سحيقة بين التيّارَيْن المتصارعَيْن، ولم يكن أحدهما ليُحسن الظنّ بالآخر…

بينما نجد “الخطيئة” عند المسيحيّين تأخذ بُعدًا أكبر، وتُعدّ أساسيّة في معتقدهم، إذ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفاهيم القانون الطبيعي واللاهوت الأخلاقي، بل إنّ المسيحيّة في أصلها تدور حول فكرة فداء المسيح. والعقيدة راسخة لدى أتباع هذه الديانة بأنّ تضحية المسيح بنفسه وموته على الصليب فيه غفران لكلّ خطايا البشريّة، وهي تسمّى “عقيدة الخطيئة” أو “الهيرمتيالوجي”. والأهمّ من ذلك كلّه وصف الخطيئة في المسيحيّة بأنّها ارتكاب جريمةٍ ضدّ الله. وخلاصة القول، فإنّ المسيحيّين متّفقون على أنّ الخطيئة عملٌ إنسانيّ شرّير ينتهك الطبيعة العقلانيّة للإنسان، ويتصادم مع القانون الكوني الإلهي، وقد عرّفها القديس “أوغسطيوس” بقوله: “الخطيئة كلمة أو عمل أو رغبة تتسبّب في معارضة الشريعة الأبديّة لله”. 

والخطيئة عند اليهود لها شأن كبير أيضًا، حيث تتّصل بقصّة بقرة بني إسرائيل، عندما أمرهم الله بذبح بقرة، وأخذوا يسألون عنها حتّى صعبت عليهم، قال تعالى: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ (البقرة ٦٧) وهو ما بات يعرف حتّى يومنا الراهن بـ “قربان الخطيئة” أو ما يسمّى بالعبرية “קָרְבַּן חַטָּאת؛ كوربان خطائت”، ولا تزال ضمن أنساك اليهود المقدّسة.

ولم يسلم من ذلك حتّى الديانات غير السماويّة، حيث نجد أنّ هناك في الهندوسيّة دلالات معيّنة للخطيئة، وأهمّيّة ثقافيّة؛ فمتّبعي هذه الديانة يؤمنون بدور “الكارما” التي تعني العمل والمصير أو الفعل. و”الكارما” مفهوم أخلاقيّ في المعتقدات الهندوسيّة والبوذيّة والسيخيّة والطاويّة، يشير إلى مبدأ السببيّة، حيث تؤثّر نوايا الفرد وأفعاله على مستقبله، وهو ما يجعلهم يعظّمون أمر الأفعال المنافية للأخلاق، ويسمّونها “خطيئة”، ويعتقدون أنّ مرتكب هذه الأفعال سيتأثّر سلبًا في حياته المقبلة. 

وكلّ ذلك يقودنا بالطبع إلى أمرٍ غايةً في الأهمّيّة، يتعلّق بافتراض النيّة المبيّتة للمصادمة مع المجتمع. فعنوانٌ بهذه الدلالات القويّة والصادمة لكلّ المجتمعات الإنسانيّة، بالتأكيد لم يأتِ مصادفةً. وإذا ما عدنا إلى المفردة الأخرى “التكفير” التي شَكَّلت في عصر الصحوة ورقةً رابحة لتهديد ومجابهة تيّار العلمانيّة والمخالفين للتوجّهات الإسلاميّة، فإنّنا سنقف على حجم الاستفزاز الذي يشكّله هذا العنوان. وبالتالي، لم يكن مستغربًا ما تبع صدور الكتاب من حراكٍ كبير على كلّ المستويات، الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، في المملكة العربيّة السعوديّة وفي كافّة أنحاء عالمنا العربي. وكلّ ذلك إنّما يشير بوضوح إلى القيمة الفكريّة الكبيرة التي يمثّلها د. عبدالله الغذامي، وقدرته على تحريك المياه الراكدة، وقيادة الحراك المجتمعي. كما تشير هذه الصداميّة المعلنة إلى أنّه صاحب مشروعٍ ثقافيّ وفكريّ حقيقيّ، يتجاوز محدّدات الأدب والثقافة ويصل إلى المسكوت عنه أو المحرّمات المجتمعيّة… أي أنّه لم يكن ناقدًا أدبيًّا فقط، ولم يكن حديثه يتعلّق بالنقد الأدبيّ لوحده، بالرغم من كونه ناقش من خلاله نظريّات النقد الحديثة كالبنيويّة والسيميولوجيّة والتشريحيّة، واتّخذه سبيلًا لطرح وجهة نظره المختلفة. وقد يُظنّ به أنّه فعل مثلما فعل طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي جابهته كلّ الأقطار العربيّة والإسلاميّة بهجمةٍ شرسة مشابهة، بعدما فهمت منه أنّه اتّخذه، بطريقةٍ غير مباشرة، وسيلةً للتشكيك في أصل العرب والقرآن الكريم والأنبياء.

وبعيدًا عن هذه الجدليّة الفكريّة المبنيّة على سوء النوايا، فإنّ الغذامي تحدّث بالفعل في كتابه “الخطيئة والتكفير” عن نظريّاتٍ نقديّة حديثة بدأت تغزو الساحة الأدبيّة العالميّة، وتُستخدم في قراءة النصّ قراءةً تستند إلى الشفرات الدلاليّة، وتفكيك وحداته وتشريحه ثمّ إعادة تركيبه، مستشهدًا بالنتاج الشعريّ للشاعر السعودي حمزة شحاتة يرحمه الله. إلّا أنّ ما أثار حفيظة كثيرين، خلاف العنوان، صمته المتعمَّد حيال تحديد النصوص المستهدَفة بالنقد، وكذلك اختياره لحمزة شحاته دون غيره، مع ما عُرف به من ميول حداثيّة بمفهوم عصره، ما جعل بعض المعارضين يذهب بعيدًا في توقُّع مآلات هذا النقد، والحدود التي سيصلها في تشريحه للنصوص. وما يعنينا من ذلك كلّه، أنّ الغذامي لم يكن مجرّد كاتب، وإنّما هو صاحب عقيدة فكريّة، وظّفَ الأدب والنقد لإيصالها، ولم يكن من سبيلٍ لذيوعها وانتشارها إلّا بهذه المصادمة المجتمعيّة، في ظلّ الانغلاق الكبير الذي من المتوقع أن يواجه مشروعه مبكرًا، واستحالة تفكيكه إلّا بالطَّرْق الشديد… وكان للقلم مفعوله، وهو ما ظهر لاحقًا من خلال باقي كتبه التي تصبّ في هذا الاتجاه، خاصّةً وقد تبنّى علنًا تيّارُ الحداثة، هذه المفردة التي كانت صادمة أيضًا للمجتمع المحافظ، وحُمّلت أكثر ممّا تحتمل بسبب غياب التعريف الواضح والموحد لها، وهوجمت حتّى في المجتمعات الغربيّة نتيجة الصداميّة التي شكّلها الفيلسوف الألماني “جورج فلهام فريدريش هيغل”، وهو من تزعّمها وعُرف بها، وكان يحمل أفكارًا صادمة ومستفزّة للعالم الغربيّ، فضلًا عن العالم الإسلامي، في نظريّاته التشكيكيّة في مولد المسيح، وآرائه غير التقليديّة في كلّ الأحداث التي واكبت نشأة المسيح، وتجرُّئه على النصوص التوراتيّة، وذهابه باتّجاه تكذيب جُلِّها، والتشكيك في كلّ ما هو مقدّس. ولعلّ ذلك ما جعل كثيرين يرفضون التيار الحداثيّ، رغم ما يحمله من أفكارٍ جميلة تدعو إلى تطوّر المجتمعات وانعتاقها من التبعات غير العقلانيّة، خاصّة أنّ هيغل روّج لآراء غير جيّدة تخصّ العرب والمسلمين، وحتّى الأفارقة، وكان يتبنّى تفوُّق العرق الغربيّ واستلامه زمام الحضارة إلى الأبد بعد وصولها إليهم من المسلمين الأوائل، ما يشير إلى العنصريّة والنوايا المضمرة تجاه الآخر.

وقد اتّسمَت تلك الفترة بالحدّيّة، ورفض الوسَطيّة في كلّ الأمور، ما جعل كلّ من يأتي على ذكر الحداثة خارجًا عن الملّة. ولعلّ ذلك ما حدث مع الغذامي نفسه في صراعه المرير مع أصحاب تيّار الصحوة المجابِه، ولم يخلُ الأمر من تحدٍّ كبير، وعدم استسلام، واجه بهما الحملة التي شُنّت عليه حتّى من بعض الحداثيّين الشكليّين كما أسماهم، وذكر منهم صراحةً الدكتور سعد البازعي، وفق ما جاء في كتابه “حكاية الحداثة في المملكة العربيّة السعوديّة”، بل أظهر منهجه الصداميّ مع المخالفين، مقلّلًا من شأنهم، من ذلك مروره على حادثةٍ تؤرِّخ لهذا الصراع العنيف، وتُظهر ميله لاشتداد الصراع أكثر، وشعوره بأنّه يستحقّ بالفعل كلّ المجابهات التي خاضها للدفاع عنه، ومنها موافقته على مناظرة الأستاذ أحمد الشيباني يرحمه الله، الذي امتدحه كثيرًا في كتابه وعظّم علمه وفلسفته وفكره، رغم معارضته له ووقوفه في وجه تيّار الحداثة، وأبدى حرصه على مجابهته وبيان عوار المخالفين له. وكان يتمنّى أن يكون في مواجهته رجل بقامة الشيباني، بينما لم يكن يرضى بمناظرة التيّار الأكثر تضرّرًا من أفكاره الشاطحة، وأعني بذلك المؤدلجين والمقولَبين كما يصفهم، حيث تورعَّ عن ذكر أسمائهم، واعتبرهم نكرات وغير مؤهلين فكريًا وأكاديميًّا للحوار معه، رغم أنّ بعضهم ألّف كتبًا للردّ عليه. وكلّ ذلك يشير بوضوح إلى أنّ الغذامي انطلق من قناعةٍ راسخة وإرادةٍ فولاذيّة، ولم يكن واردًا تراجعه عن أيٍّ من مقولاته وتوجّهاته المعلَنة، بل كان – في ما يبدو – يطرب لهذه الصراعات، ويشعر أنّها وقود إبداعه الحقيقيّ ورسالته العميقة، وربّما كانت هي المعوَّل عليها في خلخلة التماسك الشعبيّ الرافض للتغيير، حسب وصفه. وكان ذلك ديدنه في شبابه، وقمّة عنفوانه، قبل هدوئه الأخير بعد أن تحقّق الكثير ممّا كان يصبو إليه.

 وعندما نقول أن الغذامي لم يكن بالفعل مجرّد ناقدٍ أدبيّ بل صاحب مشروع اجتماعي وثقافي وإنساني تنويري، حسب ما يعتقده هو ومريدوه، فنحن لا نبالغ، ويؤكّد ذلك باقي نتاجه الأدبي الذي يأتي في مقدّمته كتاب “النقد الثقافي – قراءة في الأنساق الثقافيّة العربيّة” الذي ناقش فيه قضيّته الحقيقيّة بطريقةٍ مباشرة، بعد هدوء العاصفة، حيث أنّنا نقف هنا مع توجّهٍ صريح لاعتبار النقد يتجاوز النصوص ويذهب باتّجاه الثقافة المجتمعيّة بكلّ أبعادها التي – يقينًا – تشمل كلّ الإشكاليّات المجتمعيّة، وأساسها الدين، أو لنقل، التفسيرات والتأويلات المتعدّدة للدين وللنصوص الشرعيّة التي لم تعد لها حرمة في ظلّ هذه النظريّة، وبات ينبغي إظهار أخطائها – شأنها شأن كلّ النصوص والثقافات المختلفة – قبل التغنّي بجمالها وبأتباعها، حسب ما جاء على لسان الغذامي نفسه. ذلك ما يُفهم من طرحه المعلن، ولم ينفِه صراحةً عند سؤاله عنه، فظهر وكأنّ نظريّة النقد الثقافي إنّما هي وجه العملة الآخر للصورة المستفزّة التي تبنّاها كلٌّ من طه حسين وتوفيق الحكيم وباقي المستغربين العرب، عند إظهارهم الإيمان المطلق بالحضارة الغربيّة. وقد نقل عن طه حسين مقولته الشهيرة في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” التي قال فيها: “أن نسير سيرة الأوروبيّين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرّها، حلوها ومرّها، ما يُحَبّ منها وما يُكرَه، وما يُحمَد منها وما يُعاب”.

وإن كان الغذامي قَصَرَ حديثَه على الأداة ولم يتطرّق للمتون، كما اختزل هذه الدراسات – في جزئها الظاهر لا المضمر- في جنسٍ أدبيّ واحد هو الشعر، ولم يتطرّق إلى باقي النصوص موضع الجدل، بل لم يُعر حتّى الرواية والقصّة الاهتمام نفسه الذي أولاه للشعر، وهو ما أشعرَ الجميع بالريبة من توجّهاته، وأدخله في مصادمةٍ من نوعٍ آخر مع محبّي هذا الجنس الأدبي، أعني بذلك أدب السرد، لكنّه – كالمعتاد – لم يكن يعير هذه المعارك الجانبيّة أيَّ اهتمام، بل مضى في طريقه لإيصال الأفكار التي يؤمن بها، بالذكاء والحنكة التي عُرف بهما، وتجلَّيا في طريقة قيادته للمعركة.

إنّ ظهور كتابه المهمّ “النقد الثقافي” أسّس لعلاقة الأدب بكلّ فروعه بالحياة الاجتماعيّة، من خلال دراسة تأثير وتأثّر الثقافة بالحالة المجتمعيّة، وهي الفكرة الأصيلة التي قام عليها مشروع النقد الثقافي في شكله الظاهر، بعيدًا عن الأنساق المضمرة التي، رغم حديثه المطوّل عنها، اتُّهم بها هو أيضًا، من خلال نوعيّة كتاباته المطلسمة والمضمّخة بمعانٍ يصعب التحقُّق منها، إذ يجعلها تُبطن أكثر بكثير ممّا تُظهر. وقد أتى على ذلك في معرض حديثه عن الإنجازات النقديّة التي تؤسّس للنظرة النقديّة ببُعدها الثقافي، وتمثّل – حسب وصفه – ذاكرة اصطلاحيّة لمشروع كتابه “النقد الثقافي”. وأتى بعدها على الدراسات الثقافيّة كأوّل هذه الإنجازات التي خدمت مشروع النقد الثقافي. وكان لافتًا في هذه الدراسات التي استشهد بها، إشارته الصريحة إلى إشكاليّاتٍ كبيرة تتصادم بالفعل مع ثقافة المجتمع المسلم، وإن كان ما قاله نقلًا عن الفيلسوف الإيطالي “أنطونيو غرامشي” صاحب النظريّة الاجتماعيّة، والذي يتبنّى فكرة أنّ المجتمع يُقاد بالأفكار لا بالقوّة، إذ نقل عنه بعض الأفكار الصادمة في قوله (ص ١٨): “إن قرامشي بنى نظرته إلى الهيمنة على كشف علامات التسلُّط من حيث علاقتها بالطبقة، فإنّ الدراسات الثقافيّة توسّع المجال ليشمل العرق والجنس والجنوسة (gender) والدلالة والإمتاع”. انتهى كلامه.

وكما نلاحظ هنا، إنّ الأفكار التي ذكرها “غرامشي” واستشهد بها الغذامي، ضمّنها أمرًا غايةً في الأهمّيّة وهو “الجنوسة” التي تعني نظرة الإنسان أو إحساسه بنوعه الجنسي، وهي الذريعة التي اتّخذها الغرب للاعتراف بالمثليّة، معتمدين على دراسات تقول إنّ الإنسان يشعر بنوعه الجنسي خلال السنوات الثلاثة الأولى من عمره، فيحدّد هو إن كان ذكرًا أو أنثى أو جنسًا ثالثًا، وينبغي منحه الحرّيّة لاختيار جنسه اعتمادًا على هذه الفلسفة الصادمة حتّى للمجتمعات الغربيّة المحافظة. وما يعنينا من هذا الحديث المباشر عن قضيّةٍ مماثلة، هو الاستدلال على أنّ المشروع كبير جدًّا، ولا يستهدف دراسةَ النصوص أو نقدها، وإنّما استخدامَ النصوص لدراسة المجتمعات، وبالتالي وضع السياسات والمنهجيّات لتغييرها وفق الأفكار والفلسفات التي يقرّرها الناقد، وليس السلطة الثقافيّة كما يسمّيها، ويعني بها القوّة المهيمنة التي قد تكون سياسيّة أو راديكاليّة أو ثقافيّة، وإن كان ذلك لا يقتضي بالضرورة نقل الثقافات الغربيّة وإنّما توظيف الأدب لفهم المجتمع والتأثير فيه بأيّ طريقةٍ كانت؛ ما يشير إلى عدم عزل الأدب عن أنساقه الاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة، كما تقول بذلك نظريّة البنيويّة التي تتصادم ظاهريًّا مع هذه الفكرة التحرّريّة، وهي الفكرة التي قام عليها النقد الثقافي، وأتى بها الباحث والعالم الأمريكي “فنسنت ليتش إلي” في بداية التسعينيّات من القرن العشرين، بشكلها الحالي، وتبنّاها كثيرون على مستوى العالم، ومنهم بالتأكيد د. عبدالله الغذامي.

وإذا ما عدنا للغذامي والرسالة التي يحملها من خلال تبنّيه لمشروع النقد الثقافي، ومحاولة تمريره في المجتمعات العربيّة، وبالأخصّ السعوديّة، ما قبل الرؤية المباركة، فإنّنا نجده قد صرّح بذلك الهمّ الكبير الذي يحمله، ودفعه لهذا التوجّه في محاولة الخروج من نظريّة البنيويّة والشكلانيّة والسيميائيّة، ومحاولة تحرير النصوص من الانغلاق الذي كان يحاول بعضهم إغراقها فيه، عن علم أو جهل. وقد صرّح بهذا التوجُّه في كتابه “النقد الثقافي” (ص١٥)، عند قوله نصًّا: “وهذا الالتزام المبدئي حرم النقد من القدرة على معرفة عيوب الخطاب، ومن ملاحظة ألاعيب المؤسّسة الثقافيّة وحيلها في خلق حالة من التدجين والترويض العقلي والذوقي لدى مستهلكي الثقافة وما يسمّى بالفنون الراقية والأدب الرفيع”. انتهى كلامه.

وكما نلاحظ هنا، فالخطاب مباشر، ينتقد فيه النظريّة التي حاولت الاشتغال على النصوص الأدبيّة بمعزل عن محيطها، كالنظريّة البنيويّة، دون الالتفات إلى الحراك المجتمعي الكبير الذي يقوده النصّ، أو لنقل، تقوده الحالة الثقافيّة، أو ينساق هو خلف الحالة الثقافيّة، وإخضاع كلّ النصوص، بلا استثناء، للتحليل والتأويل، وإظهار قبحها وجمالها. وهذا هو المفهوم البسيط الذي أتى به مشروع النقد الثقافي، وتزعّمه د. عبدالله الغذامي مبكّرًا في العالم العربي، قبل الترجمة الأخيرة لكتاب “فنسنت ليتش لي” “النقد الثقافي – النظريّة الأدبيّة وما بعد البنيويّة”، عن طريق هشام زغلول. ومن المهمّ هنا أن نذكر أنّ الغذامي في كلّ كتبه وحوراته لم يحدّد المؤسّسة الثقافيّة التي يستهدفها بالنقد ويتّهمها بتدجين المجتمع، ما جعل الباب مفتوحًا على كلّ الاحتمالات، وأصبحت السلطة الدينيّة ضمن الاحتمالات الممكنة، وهو ما زاد النار اشتعالًا.

ولعلّه من المعلوم أنّ هذه الفكرة التي بُنيت عليها نظريّة النقد الثقافي في صورتها النقيّة البسيطة، لم تكن وليدة النظريّات الحديثة فقط، فقد قال بها المسلمون الأوائل، بطريقة أو بأخرى، واتّخذوها وسيلةً لتفسير القرآن، من ذلك القصّة المرويّة عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – “قال القرطبي: وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب- رضي الله عنه على المنبر قال: أيها الناس ما تقولون في قول الله- عز وجل-: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ. فسكت الناس. فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين. التخوف: التنقص. فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد اكتنازه:

تخوّف الرحل منها تامكا قردا … كما تخوّف عود النّبعة السّفن

فقال عمر: أيها الناس: عليكم بديوانكم شعر الجاهليّة، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم”.

وممّا يروى أيضًا للدلالة على تفسير القرآن، من خلال الأنساق الاجتماعيّة، والثقافة أو اللغة الدارجة، ما يُروى عن عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – أنّه قال، وهو ترجمان القرآن: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يريد: أنا ابتدأتها. وفي هذا ما يؤكّد بلا أدنى جدال أنّ فصل النصوص الأدبيّة عن سياقها الاجتماعي والثقافي بالحدّيّة التي تتبنّاها بعض النظريّات الغربيّة غير صحيح، طالما أنّها وسعت تفسير النصّ المقدّس القرآن الكريم وفهم معانيه. وهو القول الراجح الذي تزعّمه الغذامي ظاهريًّا، وإن كان جاهرَ بتأثّره بالثقافة الغربيّة ونقولات مفكّريها، ولم ينكر شيئًا من أقوالهم، ولم يحاول – في ما يظهر لي – ربطها بالموروث الإسلامي أو بالفلاسفة والنقّاد العرب الأوائل، كالجرجاني والقرطاجني، رغم أنّ هناك ما يؤكّد ذلك في أقوالهم عند حديثهم عن الشعر، ومحاولة فهم ما يقوله الشعراء من خلال الأنساق الاجتماعيّة والثقافيّة وحتّى الدينيّة، وسعي الشعراء والأدباء والفلاسفة أيضًا للتأثير في مجتمعاتهم من خلال النصوص الأدبيّة والفلسفيّة المختلفة. كما وأنّ أكبر حالة ثقافيّة تأثيريّة غيّرت وجه العالم القديم والحديث يمكن إسنادها إلى الإسلام الذي لا يزال حتّى يومنا الراهن يمارس النقد الثقافي بشقَيه المضمر والظاهر، وبالأفعال والأقوال، بل إنّها الثقافة الوحيدة التي يشتغل عليها الجميع بلا استثناء وغير موكلة للمؤسّساتيّة أو للنخب، وبالتالي يمكن لنا قبول الحداثة والنقد الثقافي إن استثنينا النصوص الشرعيّة قطعيّة الدلالة من هذا الحراك؛ وهو ما لم يقل به الغذامي وكلّ من تبنّوا هذه النظريّات وسوّقوا لها وخلقت تلك الإشكاليّة الكبيرة. 

       وبالعودة إلى الغذامي، فإنّه لا يمكننا إنكار القيمة التي يمثّلها بنقله لهذه المدارس الفنّيّة النقديّة الغربيّة، وتوظيفها لدراسة الحالة الإبداعيّة العربيّة. فكما هو معلوم، إنّ العشوائيّة والفوضى لا تقيم حضارة، وكذلك الممارسات غير المرصودة والمقنّنة والملتزمة بأطرٍ معيّنة وقوانين لا يعوَّل عليها. وهو ما جعله يفني عمره في هذه النقولات والاستشهادات، واقتفاء الأثر، والتأسيس للثقافة النقديّة الحداثيّة بمدارسها المختلفة، التي تصادمت في جزء منها مع الأصوليّة المجتمعيّة، أو الانصهار داخل القديم ورفض الجديد، أو تقديس بعض النصوص وعدم المساس بها، مهما كانت علّاتها. وكان ذلك متوقّعًا ولم يخلُ منه أيُّ فكرٍ جديد، حتّى لو كان ممارسًا شعبيًّا بمسمّيات أخرى. وربّما عاب هذا التوجُّه الغذامي أيضًا، إن صحّ لنا قول ذلك، إغراقه في المصطلحات العلميّة المستحدثة، والتقعير الكبير لشروحاته ونقولاته وكتاباته النخبويّة والغامضة التي جعلت بعض معاصريه يهاجمه بسبب سوء فهمه لها وعدم قدرته على إحسان الظنّ في ما لا يفهم. وكان من الحري به تبسيطه ليصل إلى العوامّ قبل النُّخَب المستهدَفة، ليضمن شيوعه وانتشاره، إن لم يكن هناك ما يخشاه. وربّما لم يكن ليصل إلى هذه الحالة الصداميّة لو قيّده وكيّفه مع أصولنا الدينيّة، وأطلقه في الحالة المجتمعيّة، ولم يتمَّ التعاطي معه بالحدّيّة الملحوظة. ولعلّ هذا ما يقول به النقد الثقافيّ في أبسط صوره. ذلك ما تؤكّده الخصائص التي ذكرها “ليتش”، وأوردها الغذامي في كتابه (ص ٣٢) بما نصّه: “من سنن هذا النقد أن يستفيد من مناهج التحليل العرفيّة من مثل تأويل النصوص ودراسة الخلفيّة التاريخيّة، إضافة إلى إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي”. انتهى كلامه. وهذا يعني بالطبع عدم انغلاق النقد الثقافي عند “ليتش”، وانفتاحه على كلّ المدارس النقديّة الأخرى التي اهتمّت ببنية النصّ ودلالاته، وأغفلت محيطه. وتبقى نقطة الاختلاف المحوريّة هي النصوص المستهدفة، فـ”ليتش” لم يستثنِ الكتاب المقدّس من نظريّته، فهل نحن كمسلمين سننحى هذا المنحى؟!        الآن وقد وصلنا إلى خطّ النهاية، علينا التوقُّف، مع أنّ هناك الكثير ممّا يمكن قوله عن هذا الرجل الذي عشق الصدام وبحثَ عنه. وعلينا الاعتراف بأنّ إرث الغذامي سيعمِّر طويلًا وسيكثر الحديث عنه، فقد أخلص له وسعى بكلّ ما أوتي من قوّة لتمريره، أو على الأقل، جعْله حاضرًا في الثقافة الإنسانيّة على وجه العموم. وهو ما حدث بالفعل؛ فنحن الآن على بعد أكثر من أربعين عامًا من معركته الأولى حول التكفير والخطيئة، ومع ذلك لا تزال ناره مشتعلة لم يخبُ أوارها بعد، وقد تتصعّد ألسنتها في أيّة لحظة، طالما أنّها دُوّنت بهذه الطريقة التي استُغلق على بعضهم قراءتها وفهمها، وبالتالي مواجهتها، فكانت تلك هي خلاصة تجربة “الغذامي” التي مرّت بعدّة منعطفات غاية في الصعوبة، لكنّها لم تفقد سمتها الأساسيّة الصداميّة التي تقودنا إلى الاستفهام المهم “وماذا بعد؟”.