رومانسيات كورساكوف الموسيقية وعصا برنارد لويس الغليظة

فلاح حكمت إسحق*

عندما نشرت جامعة برينستون أطروحة (إدوارد سعيد) الاستشراقية في كتابه (الاستشراق Orientalism) عام 1978 لا أظنُّ أنّ القيّمين على أمر النشر في الجامعة والمهتمّين بالموضوعات الاستشراقية حسبوا أنّ هذا الكتاب سيشغل مكانة له في طلائع الكلاسيكيات الثقافية في القرن العشرين وما بعده؛ لكنّ هذا هو ماحصل بالضبط. بعد نشر هذا الكتاب صار سعيد يوصفُ بأحد الآباء المؤسسين للاستشراق فضلاً عن رياديته في حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية.

لم يُترجّمْ كتاب سعيد هذا إلى العربية حتى عام 1981، وانتشر في الأسواق العربية عام 1982. ترجَمَةُ الدكتور كمال أبو ديب لم تساهم في نشر الموضوعة الاستشراقية لسعيد لأنّه (أبو ديب) بدا مسكوناً بحمّى المستحدثات اللغوية الثقيلة على الأذن العربية. ضاعت الموضوعة الفكرية للكتاب في خضمّ بحر متلاطم من الابتكارات اللغوية التي جاءت تماهياً مع ثقافة الدرس البنيوي التي شاعت وقتذاك. كان الكتاب باعثاً على التنفير وموضع انتقاد حتى من جانب سعيد ذاته الذي كتب بشأن عدم اتفاقه مع هذه الترجمة في مقالة مطوّلة له. يتساءل المرء: لماذا لم يراجع سعيد هذه الترجمة قبل نشرها، أو -في الأقل – كان يمكن له أن يعهد بها إلى مراجع لغوي من بعض ثقاته؟ هذه تفاصيل ليست لنا وسيلة لبلوغ حيثياتها الدقيقة والدفينة. ما أكثر الوقائع الدفينة والخبيئة في تاريخ الثقافة والبشر!. جاءت ترجمة الراحل (الدكتور محمد عناني) أكثر سلاسة لغوية من الترجمة السابقة برغم بعض المآخذ الصغيرة (مثل جعل رسم الياء “ي” من غير تنقيط “ى”، وهذه عادة شائعة في كثير من المطابع المصرية ومنها مطبعة دار الشروق التي نشرت ترجمة عناني). ظهرت ترجمة ثالثة سأتغافل عنها؛ لكنْ أظنّ أن الترجمة الرابعة التي ظهرت قبل عام وبضع عام بتوقيع الدكتور (محمّد عصفور) هي الترجمة الأوثق والأفضل. آخر الكتب المترجمة إلى العربية والتي تناولت أطروحة (سعيد) هو كتاب (أماكن الفكر Places of The Mind) الذي صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية وكتبه (تيموثي برينان Timothy Brennan ) وهو أحد مَنْ تتلمذوا على يدي سعيد في جامعة كولومبيا الأمريكية. الكتاب أقرب إلى سيرة حياتية- فكرية لسعيد نقرأ فيها بعض الإضاءات الجديدة من قبيل كتابة سعيد لرواية وأشعار غير منشورة؛ لكن بقدر ما يختصُّ الامر بالأطروحة الاستشراقية الكلاسيكية فليس من جديد ذي شأن إلا الإشارة إلى ببلوغرافيا مكثفة لأعمال نشرَها سعيد لم تجرِ الإشارة إليها في الترجمات العربية لأعمال سعيد (وبخاصة مقالاته المبثوثة في غير صحيفة ومجلة عالمية).      

منذ الترجمات الأولى واللاحقة لكتاب الاستشراق ظلّت الموضوعة الاستشراقية أقرب لمواضعة متفق عليها، وقد جاءت كتابات سعيد اللاحقة لكتاب الاستشراق لتؤكّد هذه الاطروحة (ومن هذه الكتابات كتابُهُ تعقيبات على الاستشراق الذي ترجمه صبحي حديدي إلى العربية). الأطروحة الاستشراقية، بمختصر مفيد، هي أنّ الغرب شكّل رؤية خاصة به عن الشرق تسِمُهُ باللاعقلانية والتواكل وعدم حساب أهمية الزمن والتخنّث إزاء قوى الطبيعة والخضوع لها (في سياق علاقة رومانسية في الغالب) بدل محاولة فهمها ومن ثمّ تسخيرها لصالح الانسان. ينبغي الإشارة هنا إلى تأكيد الغربيين على موضوعة التخنّث إزاء الطبيعة في مقابل الغِلْظة إزاء التعامل مع الآخر فيما يخصّ العربي الشرقي، وهي موضوعة تمّ ترسيخها وحثّها لاحقاً وتضخيم مفاعيلها في إطار سايكولوجي مفادُهُ أنّ العربي عندما يعجز عن قهر خصومه فإنّه يُبْدي إمارات التذلّل والانصياع لهم، ومن هنا تعالت أصوات الاستشراقيين الجدد وبخاصة صوت برنارد لويس في ضرورة أن يُضرَبَ العرب بعصا غليظة في جباههم دوماً ليكونوا طوع السياسة المرسومة لهم.

توصفُ موضوعة سعيد بالأطروحة الاستشراقية الكلاسيكية، وهي في عمومها تبدو مدفوعة بعناصر عرقية وثقافية مركّبة تقوم على تدعيم فكرة التفوّق الغربي؛ لكن يبدو أنّ العنصر الاقتصادي (المال في نهاية الامر ممثلاً بالموارد الأولية) هو الدافع الحقيقي لها. إذا كنتَ تسعى للسيطرة على الموارد الطبيعية لجماعة بشرية ما فمن الطبيعي أن تعزّز عناصر العجز وعدم القدرة على استغلال هذه الموارد لدى أفراد هذه الجماعة البشرية. يمكن تصميم جملة من الأسباب (المُهَنْدَسة بتخابث مقصود) تتضافر فيها الأسباب السايكولوجية والذهنية والجسدية بقصد إدامة عناصر التفوق الغربي . لم يتقاعس الغربيون عن  توظيف كلّ العناصر الرمزية والمادية التي تخدمُ غرض الاستحواذ الاستعماري على الموارد الأولية. حتى الموسيقى كانت لها حصة معتبرة. جرّبْ أن تستمع بدقّة وإنصات إلى الموسيقى الرائعة لِـسمفونية (شهرزاد) التي كتبها العبقري (ريمسكي كورساكوف). تبدو موسيقى خَدِرة تذكّرُنا برومانسية الشرقيين النيام في بغداد المؤسطرة. ثمة مقطع موسيقي في السمفونية يكاد فيه المرء يسمع ديك الصباح وهو يتثاءب لا يقوى على الصياح بقوة. كورساكوف موسيقي عبقري، وعمله هذا أحد التحف الموسيقية، وهو لم يكن بالتأكيد منخرطاً في لعبة استعمارية؛ لكنّ رومانسيات الشرق وأجواءه المؤسطرة تدفع المرء لهذا التصوّر عن زمن شرقي ممطوط بلا نهاية وحافل بكلّ المتع التي تجود بها الأرض من غير مشقة تنقيب أو استكشاف أو علم أو تقنية. في السياق الموسيقي لاتخفى ملاحظة العناصر الدينامية المتفجّرة في التشكيل السيمفوني الغربي في مقابل الموسيقى الشرقية البطيئة والمتثاقلة.

من المفيد والمهم في هذا المقام عدمُ إغفال بعض الحقائق الأساسية:  

الأولى: الاستشراق الكلاسيكي، وإن كان مدفوعاً بضرورات استعمارية تقضي بمعرفة تفاصيل المكان “بشراً وبيئات” الذي يراد الوصول إلى مكامن الثروات الطبيعية فيه، لكن كانت له مدارس عدّة متباينة الاهتمامات. مدارس الاستشراق مثل الرأسمالية: ليست حالة واحدة موحّدة. المدرسة الاستشراقية الألمانية تتمايز نوعياً عن المدارس البريطانية والفرنسية والهولندية لأنّ الهامش الاستعماري الاستحواذي كان شبه معدوم لديها؛ لذا ظلّت المدرسة الاستشراقية الألمانية هي الأكثر رقياً ومعرفة بين كلّ هذه المدارس.

الثانية: ظلّت الجامعات هي الأماكن التي توطّنت فيها الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية، وحتى رجال المخابرات والاستخبارات العسكرية والدبلوماسية ممّن خدموا في المنطقة العربية (تي. إي لورنس مثالاً) كانوا ممّن تلقّوا تعليماً راقياً في نخبة الجامعات البريطانية. يمكن أن نذكر مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS التابعة لجامعة لندن مثالاً راهناً على رصانة الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية. ملخّص القول إنّ الجنبة الأكاديمية الجامعية ظلّت ملتصقة بالمعرفة الاستشراقية قبل حلول عهد الاستشراق الجديد.

الثالثة: من العبث وسمُ الفكر الاستشراقي الكلاسيكي بالفكر التآمري الخالص. الحكومات بطبيعتها تعمل وفقاً لسياسات براغماتية صارمة؛ لكنّ الافراد (الغربيين بخاصة) ليس من قيد يقيّدهم ليكونوا تروساً عمياء في الآلة الاستعمارية. كثيرٌ من الغربيين توّاقون لهدوء الشرق والابتعاد عن العوالم الكوسموبوليتانية الصخّابة والحافلة بضروب التنافس الشرس والتغوّل المادي. عندما حلّ ماسينيون ضيفاً على الحلّاج البغدادي فهو كان يبتغي تنويراً واستنارة روحية ليس لها علاقة بالاستعمار الفرنسي. ليس من المروءة أو المجدي تغليبُ الجنبة التآمرية في كلّ نشاط غربي وبخاصة لو كان مدفوعاُ بفردانية محضة بعيداً عن الترتيبات الدبلوماسية أو العسكرية أو المخابراتية (مثلما يفعل أعضاء السفارات عندما يعملون غطاءً لوكالات محدّدة في حكوماتهم). 

الرابعة: كان للمستشرقين الغربيين إسهامات مشرقة بتعريفنا ببعض أعاظم علمائنا العرب ممّن لم نسمع بهم. الإنسان العالِمُ السويّ وغير المحمّل بأحقاد عنصرية يميلُ بطبيعته إلى ملاحقة الأصول المعرفية أينما كانت وكيفما كانت، ولا شأن له سوى بنشر المعرفة في أوسع نطاق ممكن.

                                      *****

بعد واقعة 11 سبتمبر(أيلول) 2001 المفصلية شهد العالم خفوتاً وانزواءً للدراسات الاستشراقية الكلاسيكية (الاستشراق المعرفي) في مقابل نشأة وتنامي خطاب استشراقي ذي لغة أخرى خشنة ودافعية مخالفة. يمكن أن يكون للعولمة المتصاعدة حينذاك دورٌ جوهري في كسر نمط الزمان الاستشراقي: صار بمستطاع راهب بوذي في أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو في أقصى منطقة التبت، أن يفتح كاميرا حاسوبه ويشهد حركة الحشود البشرية في قلب مانهاتن بمدينة نيويورك. ثمّ جاء الانزياح المفاهيمي للتقنيات نحو الثورات الرقمية وما حصل بموجب ذلك من إعادة مفهوم صناعة الثروة؛ الأمر الذي ترتّب عليه فقدان بعض الميزة النسبية للشرق المزوّد للمواد الاولية، وظلّ قطاع الثروة الأحفورية (النفط والغاز الطبيعي) هو آخر معاقل الفكر الاستشراقي الكلاسيكي في جانبه المادي.

الدافع الأساس الذي حفّز الاستشراق الجديد هو دافع آيديولوجي بالتحديد؛ لذا يمكن تسميته بالاستشراق الآيديولوجي تمييزاً له عن الاستشراق المعرفي (الكلاسيكي). تحوّل الاستشراق من التركيز على الحقول الفلسفية واللغوية والتاريخية في نخبة الجامعات الغربية إلى أن يكون أقرب لبيوتات خبرة على نمط مراكز الدراسات والبحوث الغربية (الأمريكية بالتحديد). لم تَعُدْ جامعات كامبردج وأكسفورد وبرلين والسوربون وليدن هي مراكز الفكر الاستشراقي بل صارت معاهد الدراسات الستراتيجية -التي يقودها يمينيون راديكاليون على شاكلة المحافظين الجدد- هي المزوّدة للخبرة الاستشراقية السريعة. ما كان يلزم سنواتٍ للدراسة والبحث والاستقصاء والمساءلة والتحقيق في المراكز الجامعية من قبلُ صار يُطبَخُ على عجالة في بضعة شهور؛ فالسياسيون والعسكريون وراسمو السياسيات الستراتيجية لا يطيقون الانتظار، وليس الاصطبار على التفكّر الهادئ من خواصهم المؤصّلة. صار هؤلاء السياسيون والعسكريون والستراتيجيون يرون في الخبرة الاستشراقية شيئاً شبيهاً بتطوير منظومة دفع في الصواريخ الجوّالة!. صارت الخبرة الاستشراقية محكومة بعنصر تقني غيّب عنها ذلك الإزميل الفكري الرصين الذي يغوص في الحفريات الثقافية.

ثمّة أمر جوهري آخر بشأن الاستشراق الجديد: صارت بؤرته البحثية مصوّبة نحو أفاعيل الحركات الإسلامية الأصولية حتى لكأنّه صار يماهي بين الكتلة البشرية العربية وهذه الحركات في موقف يراد منه تعميم صورة متطرفة عن العرب والمسلمين. تؤمن الحركات الإسلامية المتطرفة بوجود فسطاطيْن: فسطاط للحق وفسطاطٌ للكفر، ولا مجال للتداخل بينهما. تبدو فلسفة الاستشراق الجديد وكأنها توظّفُ مبدأ (العالم كفسطاطين) في توجّه مضاد: أنت معنا أو بالضد منّا. هذا ما قاله جورج بوش (الابن)، وهو ممّا يخالف ألفباء السياسة البراغماتية التي جرى تنضيجها بعد سنوات طويلة من التفكّر والأهوال الجسام في حروب دموية مدمّرة.

         إنّ المرء ليحزن ويصيبه القنوط عندما يشهد أنّ برنارد لويس وفؤاد عجمي صارا مثالين ضدّييْن لإدوارد سعيد، وأنّ بيوتات الخبرة الستراتيجية صارت نقيضاً فكرياً وبديلاً مؤسسياً لجامعات النخبة الغربية الرصينة.

                              قراءات إضافية منتخبة

  1. لمن يرغب في قراءة مسحية سريعة (صحفية الطابع) يمكن مراجعة المقالة المعنونة:

                Twenty-first century orientalism         

التي كتبها Matthias Klein ونشرها في صحيفة الغارديان اللندنية العالمية عام 2009. الآتي هو الرابط الألكتروني للمادة المنشورة:

https://www.theguardian.com/commentisfree/2009/oct/18/orientalism-left-gulf-arabs

2. لمن يرغب في مقاربة أكاديمية يمكن الرجوع إلى كتاب “تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط”. الكتاب مرجع ممتاز لكلّ من الاستشراق الكلاسيكي والجديد، وهومن تأليف (زاكاري لوكمان) وترجمة (شريف يونس). الطبعة الأولى من الكتاب نشرتها دار الشروق المصرية عام 2007.

3. لمن يرغب في الاستزادة من المعرفة بالأطروحات الضدّية لأطروحة (سعيد) الاستشراقية يمكنه مراجعة الكتاب المعنون:

 Dangerous Knowledge: Orientalism and Its Discontents

لمؤلفه Robert Irwin. الكتاب منشور عام 2006.

* كاتب ومهندس من العراق