عمّان:  مي مظفر

لم تأت وفاة إحسان عباس بغتة لتقطع الأنفاس، أو تمد سكينها الحادة لتشق الصدر، بل مهّد لها المرض بعض الوقت مما جعل المقربين من أهله وأصدقائه يراقب عن كثب زحف الوهن في جسده حتى النهاية. مع ذلك كان خبر الوفاة قاسيا وصادما، بل أشق من أن تخفف عنه كل التصورات والتوقعات المسبقة. حين بلغني الخبر أحاط بي فراغ مهول، وتجلت أمام عيني الأيام القادمة وقد خلت من أي ملاذ حقيقي يضاهي شرفته الحميمة ومجلسه الغني، حتى وجوده المجرد كان يبعث في نفسي الإحساس بالاطمئنان.

قبل أسبوع من وفاته، مساء الثلاثاء 29/7/2003م، زرت الدكتور إحسان، وودعته شاكرة الصديق والأستاذ الذي منحني من الرعاية والاهتمام بقدر ما منحني من المعرفة والمشورة والتوجيه. كم أنا مدينة لكرم عطائه الباذخ، لمجلسه الودود وعمق آرائه وجدية أحكامه، لمرحه وتواضعه. هكذا عرفته أنا وعرفه غيري.

قادتني أم أياس زوجته الوفية إلى غرفة صغيرة حيث يرقد بوداعة على سرير أطفال بعد أن ضمر حجمه، وعيناه مفتوحتان يشع منهما ضوء غريب تبحثان باستغراب وجسده يرتعش.  اقتربت منه أم اياس وقرّبت فمها من أذنه لتخبره بمقدمي عسى أن يثير الاسم بعض انتباهه. لكن عينيه وجدتا ضالتهما، وتعلقتا بوجهها لا تبغيان سواها. ولعلهما كانتا تبحثان عن ابنته وولديه. لم يلتفت نحوي، انطلق منه صوت امتزج فيه النداء بالاستغاثة. ربما أراد أن يقول ما عجز اللسان عن لفظه. أحسست أن عقل هذا الموسوعي الباهر ما زال ينبض بالحياة. أمسكتُ بيده فشد على إبهامي من غير أن يعي وجودي. ربتُ على خده، فلم يلتفت بل ظلّت عيناه معلقتين بوجه الزوجة الحنو، فقبلت كفّه الممسكة بيدي لوداعه وامتناني له، ثم خرجت موقنة بأنها ستكون الزيارة الأخيرة له.

قبل ما يقرب من عام في تشرين الثاني من 2002م وفي واحدة زياراتي التقليدية لدار إحسان عباس لتحيته وللاطمئنان عليه والاستئناس بمجلسه، ولدعوته لحضور المعرض الشخصي لزوجي الفنان رافع الناصري الذي حمل عنوان “تحية إلى المتنبي”. كانت برفقته ابنته نرمين التي حضرت من بيروت لرعايته والوقوف إلى جانبه في أثناء رقدته في المستشفى. بدا مجهدا ولكنه متماسك وكما هو شأنه لا تفارق الابتسامة وجهه، وعبر عن فرحته. سلمته الدعوة لحضور الافتتاح، وقلت له إن المتنبي في انتظارك. أمسك بالبطاقة وأمعن فيها النظر محاولا أن يقرأ التفاصيل، ثم قال بفرح :”هذه من صديقي الفنان رافع”. ومع كل ما لمسته من بشاشة وترحيب، أدركت حينذاك أن الأستاذ كان متعبا، وأن جزءا منه كان شبه مغيّب.

صادف موعد افتتاح المعرض في رمضان، ودهشنا بكل فرح مرأى د. إحسان عباس على باب قاعة العرض في السادسة والنصف. بدا شديد النحول وبكامل أناقته يتكئ بيده اليسرى على عصاه، ويتشبث باليمنى بذراع نرمين. استقبلناه بالأحضان، وشعرنا بأنه لم يكن ثمة شرف لنا اكبر من هذا. أخبرتني نرمين فيما بعد كيف ظل حريصا على الحضور، يتطلع كل حين إلى الساعة خشية أن يفوته الموعد. تابعت حضوره بقلق خشية أن يرهقه التعب جراء الاطلاع على الأعمال والوقوف طويلا أمامها. رجوته أن يرتاح بعض الشيء، فقال مشيرا إلى نرمين: “إني أستند إلى يد من حديد”. بدا وجهه ورديا ومشرقا، وروحه متوثبة تكاد تنبعث من عينيه وهي تشي بانتصار إرادته على جسمه الواهن.

وقف أمام كل عمل يتأمله ويحاول أن يفهم كيف يمكن لفنان محدث العبير عن شاعر عربي من القرن الرابع الهجري لطالما تحيّر نقاده وقراءه في تأويل ما قال على مدى العصور، لاسيما أن ما كان يراه من تصور لم يكد يترك المشاهد يقرأ النص بوضوح. ويطلق أحيانا عبارات تصف ما كان يرى من تصور فنان معاصر للشاعر الذي يحتل مكانة لا يُعلى عليها في فكره ووجدانه. حين سألته كيف وجدت نصوص المتنبي بين هذه الأشكال، قال، وصوته يتهدج ويمتزج فيه الانفعال بالتفاعل، إن الفنان استطاع أن يخرج الشاعر من عصره الغابر ويأتي به إلى عصرنا الحاضر دون استغراب. كان يستقبل محبيه ومعارفه بوجهه الطلق، يسلم على الجميع ويتحدث إليهم ويلتقط الصور معهم بلا كلل، حتى غادر القاعة مخلّفا وراءه أصداء زيارته المفاجئة تتردد بين جدران القاعة.

لدى صدور ترجمتي لكتاب فرونسواز جيلو “حياتي مع بيكاسو” قبل ثلاث سنوات، حملت إليه نسخة، وكنت قد حدثته عنها سابقا. وفي زيارتي التالية له استقبلني ببشاشته المعهودة وقال:” ماذا فعلت بي؟، قلت له خيرا إن نشاء الله، فقال:” سحرني هذا الكتاب ولم أستطع أن أتركه إلا بعد أن انتهيت من آخر جملة فيه”. وكنت أدري أية مشقة كان يعاني من جراء إجهاد نظره في القراءة. ثم بدأ يسترجع معي بعض المواقف والشخصيات ومن بينها شخصية الفنان الفرنسي ماتيس، الكبير بفنه وإنسانيته، والمعروف بشدة تواضعه وسماحته ولطف صحبته، النقيض لعدوانية بيكاسو وجبروته وأنانيته. والغريب أنني في أثناء عملي على الكتاب لطالما تجلت أمامي بعض الملامح من شخصية إحسان عباس كلما أقبل على موقف أن حادث يتعلق بماتيس. فقلت له إن جل ما أتمناه هو أن أكتب عن أوجه الشبه بينك وبين “ماتيس”. فضحك وقال: “والله لا أشفق عليك من شيء بقدر ما أشفق عليك من مشاريعك.

حين أقمت برفقة زوجي في البحرين بعد تعيينه أستاذا مساعدا في قسم الفنون في كلية الآداب، شرعت جامعة البحرين بإصدار مجلة ثقافية فصلية، علمية وإبداعية بعنوان “ثقافات”، وتم تعيين مديرة تحرير، كان الدكتور إحسان عباس على رأس قائمة الذين وجهت المجلة إليهم دعواتها للإسهام في هذا المشروع الثقافي المهم. ووعدني، حين ذهبت لزيارته في صيف عام 2001م بإرسال مقالة عن الطلل في شعر المتنبي، وبيّن لي أسفه الشديد لعدم قدرته على إعداد دراسة معمقة في أي موضوع نظرا لما كان يعانيه من وهن في جسمه وعينيه. وفي مطلع عام 2002م أرسل لي المقالة (التي نشرت في العدد الثاني من المجلة) ورفقها برسالة قال لي فيها: “المتنبي وموقفه من الطلل موضوع متواضع أخفيت فيه هدفا طالما حاورني. وهو موضوع يلائمني ذاتيا لأني أنظر إلى اثنين وثمانين سنة مرّت وذهبت سدى، أي أنها الطلل الذي أنظر إليه متحسرًا لا مقدّسًا كما فعل المتنبي:

          وكيف التذاذي بالأصائل والضحى         إذا لم يعد ذاك النسيمُ الذي هبّا

ظلت اللوعة تلازمه وتتحدى الوهن الذي أصاب جسده دون ذهنه، فيرى أنه دون القدرة على التصدي لمسألة تقلقه وتؤرقه: تدوين تاريخ فلسطين والكشف عن جذور شعبها وآثارها التي ما برحت تتشوه وتمّحي. وإزاء هذا الطموح الملتهب كان الشعور بالإحباط قد بلغ بالأستاذ إلى الحد الذي جعله يقول: “إنني أصبحت أميّا لا أقرأ ولا أكتب”، خاصة بعد حرمانه من إلقاء المحاضرات في الجامعة الأردنية مع مطلع السنة الدراسية 2002/2003م.

لا أعرف الكثير من الأساتذة الذين أعطوا ما أعطى إحسان عباس لطلابه وأصدقائه والقاصدين مكتبته. فرب الدار يشرع بابه، وربته تتعامل مع طلاب العلم كما لو كانوا أبناءها، وذلك واحد من الأسرار الكثيرة التي جعلت بيت إحسان عباس ملاذا للهاربين من مناخ الجفاف العلمي إلى واحته الظليلة. فأي خسران بعد هذا.

                                                                   مي مظفّر                                                                5/8/2003م