الدكتور محمد القريشي

كانت دولة الهند البريطانية على وشك التقسيم بين منطقتين: إحداهما للمسلمين ليعيشوا بضمان حرمة دمهم وعِرضهم وممتلكاتهم ودينهم بعيداً عن شرّ الهندوسيين الذين يرون من حقهم إقامةَ دولة هندوسية محضة. والأخرى، في سياق آخر، كانت للهندوسيين المؤتمريين ليُقدموا نموذجاً مثالياً يحتذى به في احترام مبادئ العلمانية والديموقراطية وليثبتوا فشل ما قرره الإنفصاليون الباكستانيون. فطلعت شمس ١٤ آب ١٩٤٧ وقسمت أراضي الهند بين المسلمين والهندوسيين. في ظل هذه الظروف القاسية كلها وعلى الرغم من الدعوات الدينية إلى الهجرة إلى البلاد الوليدة، بقي هناك ما يقارب نصف جماهير المسلمين ممن قرروا عدم الإستجابة للدعوة إلى الهجرة، أو ممن لم تسمح لهم الظروف بأن يهاجروا، فخلفهم القَدَرُ في الهند ليشهدوا معاناةً لم يسبق لها مثيل في تاريخ شبه القارة الهندية وليُدركوا حقيقة الهندوسيين، وليذوقوا حلاوة الديموقراطية والعلمانية! لم يتبادر إلى أذهانهم أنهم ذات يوم سوف يُقتلون لمجرد أكل لحم البقر أو شرائه أو الاتجار به، أو بسبب الأوهام والتُهم الموجهة إليهم بذبح بقرة! ولم يفكر أحدهم بأنه سوف يجتمع بعض الأوباش الفوضيين الإرهابيين حول مسلم ما أو مسلمة لسد تعطش الهندوسية إلى الضرب العنيف الذي يؤدي بحياة المظلوم. كما لم يتنبه أحد من القادة المسلمين، الداعين إلى الالتحاق بعلمانية الهند، إلى أنه سوف يأتي عليه زمن سيُصبح فيه أكثر فوضوية من رؤساء الدولة. ولم يشعر أحدهم بأن الهوية الوطنية التي جاهدوا لأجلها سوف تُصبح مهددة ومشكك فيها من قبل القيادة الهندوسية.

سكنت براكين الكراهية والعداء للإسلام لدي قادة الأفكار الهندوسية المتطرفة، وبقيت نارُها تحت رماد الزمن مخفية عن شعور وأنظار قادة المسلمين الداعين إلى اعتناق فكرة الهند الجديدة وسيادة الدستور العلماني، ولم يتنبه أحد منهم إلى هذا الخطر الكامن تحت رماد السياسة والبنية الاجتماعية في الهند الجديدة. فكيف كان لليل أن ينجلي وللقيد أن ينكسر ما دامت قيادةُ المسلمين المؤمنة بسيادة الدستور العلماني تحت إشراف الهندوسيين في الهند لم تشعر بأي خطر ضد وجود المسلمين فيما بعد الاستقلال؟ وكيف كان للشعب المسلم في الهند أن يتمكن من اتخاذ القرارات المناسبة رداً على المخاطر المحتملة بينما كانت قيادتهم المسلمة تطلب منهم الانصياع لسيادة العلمانية الهندوسية والإيمانَ بفضائل الاندماج والاتحاد الموهوم بين الهندوسيين والمسلمين؟

بمجرد مرور فترة قصيرة لم تتجاوز أربعة عشر عاماً على الاستقلال حملت الأيام مفاجآتها للذين كانوا قد آمنوا بالسلام بين المسلمين والهندوسيين ودعوا إلى التآلف والتعايش السلمي بين الملتين المختلفتين. فما أن أطلّ عام 1961 على الهند حتى شهد المسلمون سلسلة من أحداث الشغب التي كادت أن تشكل أول حادثة من نوعها بعد الاستقلال. كانت أعمال الشغب قد تطورت إلى أعمال قتل وترويع ضد المسلمين في ولاية “مديه براديش”، تحت إدارة حزب المؤتمر العلماني الخالص. في تلك الفترة، لعبت الصحافة الهندية المنحازة إلى آلهة (براهما)، دوراً حيوياً في تأجيج هذه الفتنة التي أسفرت عن وفاة عدد من المسلمين. وفيما بعد هذه البداية الناجحة في جسّ نبض المسلمين، استمر الهندوسيون يستحلبون بقرتهم المقدسة ليحدّدوا معاني مفهوم العلمانية والديموقراطية، محوّلين مساحة الدولة العلمانية إلى ساحة للقتل الجماعي وأعمال الشغب العنيفة والاغتصابات والتهجير، دون محاكمة مرتكبي الجرائم.

في العام نفسه، شهدت مدينة “عليجرة” في ولاية أترابراديش اندلاع أعمال عنف طائفية، مما جعل هذه الولاية، حتى الآن، تستمر في تصدر قائمة الأحداث الطائفية التي تستهدف المسلمين وتتضمن اعتداءات جنسية ضد النساء، بمن في ذلك النساء المسلمات ونساء الدالت (الطبقة الأدنى من الهندوس). وتعد هذه الأحداث مصدر إلهام للهندوسيين المتطرفين، مما يزيد من كراهيتهم للإسلام وعدائهم للمسلمين.

وفي ما يتعلق بأساليب اضطهاد المسلمين، فهي تتجلى بأشكال متعددة، من بينها العنف الطائفي والتمييز الاجتماعي، بالإضافة إلى التحريض العنصري الذي يتم عبر وسائل الإعلام الهندي ومن خلال الخطب السياسية لقادة الحزب الحاكم التي تستهدف التحريض ضد المسلمين. كما تشمل الأساليب التمييزية سن قوانين، مثل تعديل قانون المواطنة الذي تم إبرامه مؤخرًا، والهجمات الممنهجة على ثقافة المسلمين وتراثهم، وذلك من خلال هدم المساجد التاريخية والهجمات على الأدب والعلوم الإسلامية بها فيها اللغة العربية. تسود اللغة العربية في معاهد ومؤسسات تعليمية تقودها الجالية الإسلامية، حيث تستخدم لأغراض دراسات الإسلام. وفي العقود الأخيرة، تم إدخالها إلى مناهج الجامعات والكليات الحكومية بين دراسات اللغات الأجنبية، ولكن بفعل التصعيد في السياسة العصبية، باتت اللغة العربية تواجه تهديدًا. في 7 إبريل 2018، نشرت صحيفة “تلغراف” بيانًا مثيرًا للجدل، يطالب وزير التعليم في ولاية آسام بإستبدال اللغة العربية باللغة المحلية الأسامية في المناهج الدراسية، بحجة أنها لا تُدرَّس في الدول العربية، وبالتالي لا يجب تدريسها في ولاية آسام.

كما تتضمن الأساليب الاضطهادية دعوات علنية إلى مقاطعة المسلمين اقتصاديًا واجتماعياً. وهكذا لم يكن ليمضي عقد واحد على المسلمين في الهند دون أن يشهدوا حوادث العنف الطائفي ويقدموا تضحياتهم من القتلى والجرحى في ساحات الشهادة. فما كادت تندمل جراح المسلمين المكلومين من مجازر غوجارات وكوشامبي ومظفر نغر في مطلع القرن الحادي والعشرين حتى جاء ناريندرا مودي ليتولى رئاسة الوزراء عام ٢٠١٤ ليواصل ما فاته من اضطهاد المسلمين في عقود ماضية. وهكذا أدخل المسلمين في فصل جديد من تاريخ المعاناة شهد فيه المسلمون ظهور أساليب جديدة للاضطهاد بمختلف الأشكال.